استمر اهتمام الفاروق عمر -رضي الله عنه- بوحدة الأمة ومستقبلها حتى اللحظات الأخيرة من حياته، على الرغم مما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره، (الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، للعاني ص 161) وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلا ملموسا ومعلما واضحا على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية. لقد مضى قبله الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يستخلف بعده أحدا بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طُلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر مليا، وقرر أن يسلك مسلكا آخر يتناسب مع المقام، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الناس وكلهم مُقِرٌّ بأفضلية أبي بكر، وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادرا، وخصوصا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجه الأمة قولا وفعلا إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده، والصديق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأفضل من يحمل المسؤولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة، ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر. (أولويات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي ص 122).
وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد التي رآها عمر -رضي الله عنه- فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، وقد حصر 6 من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يصلحون لتولي الأمر، ولو أنهم يتفاوتون، وحدد لهم طريقة الانتخاب، ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة، وعدد الحكم في المجلس، والمرجح إن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد. (أولويات الفاروق، د. غالب القرشي ص 124)
وهذا بيان ما أجمل في الفقرات السابقة:
عدد الصحابة الذين حددهم للشورى وأسماؤهم
أما العدد فهو 6، وهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعا، وترك سعيد بن زيد مع أنه من العشرة المبشرين بالجنة، ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي، وكان عمر -رضي الله عنه- حريصا على إبعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة. (الخلفاء الراشدون، للخالدي ص 98)
طريقة اختيار الخليفة
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر يحضر معهم مشيرا فقط، وليس له من الأمر شيء، ويصلي بالناس في أثناء التشاور صهيب الرومي، وقال له: أنت أمير الصلاة في هذه الأيام الثلاثة حتى لا يولي إمامة الصلاة أحدا من الستة، فيصبح هذا ترشيحا من عمر له بالخلافة، وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يراقبا سير الانتخابات. (عثمان بن عفان، للصلابي ص 58)
مدة الانتخابات أو المشاورة
حددها الفاروق رضي الله عنه بـ3 أيام، وهي فترة كافية، وإن زادوا عليها فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير.
عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة
أخرج ابن سعد بإسناد رجاله ثقات: أن عمر -رضي الله عنه- قال لصهيب: "صلِّ بالناس ثلاثا، وليخل هؤلاء الرهط في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل، فمن خالفهم فاضربوا رأسه".
فعمر -رضي الله عنه- أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط، ويشق عصا المسلمين، ويفرق بينهم بقوله -صلى الله عليه وسلم- "من أتاكم وأمركم جمع على رجل منكم، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه".
وما جاء في كتب التاريخ من أن عمر -رضي الله عنه- أمرهم بالاجتماع والتشاور، وحدد لهم أنه إذا اجتمع 5 منهم على رجل، وأبى أحدهم، فليضرب رأسه بالسيف، وإن اجتمع 4 ورضوا رجلا منهم، وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، فهذه من الروايات التي لا تصح سندا، فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف الإمامي الشيعي، مخالفا فيها النصوص الصحيحة، وما عرف من سير الصحابة، رضي الله عنهم، فما ذكر أبو مخنف من قول عمر لصهيب: "وقم على رؤوسهم -أي: أهل الشورى- فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد فاشرخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما"، فهذا قول منكر، وكيف يقول عمر -رضي الله عنه- هذا وهو يعلم أنهم من الصفوة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم (مرويات أبي مخنف، يحيى اليحيى ص 176)، وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: "أدخلوهم بيتا ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم"، وهذه الرواية منقطعة، وفي إسنادها "سماك بن حرب" وهو ضعيف، وقد تغير بآخره. (مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري ص 176)
الحكم في حال الاختلاف
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس، وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي 3 رجلا منهم، و3 رجلا منهم، فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بأنه مسدد رشيد، فقال عنه: "ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف مسدد رشيد، له من الله حافظ فاسمعوا له".
جماعة من جنود الله تراقب الاختيار وتمنع الفوضى
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: "يا أبا طلحة إن الله -عز وجل- أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم".
وقال للمقداد بن الأسود: "إذا وضعتموني في حفرتي فاجمعوا هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم".
جمع عمر بين التعيين وعدمه
جمع عمر بين التعيين كما فعل أبو بكر -أي: تعيين المرشح- وبين عدم التعيين كما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعين 6، وطلب منهم التشاور في الأمر.
الشورى ليست بين الستة فقط
عرف عمر أن الشورى لن تكون بين الستة فقط، وإنما ستكون في أخذ رأي الناس في المدينة فيمن يتولى الخلافة، حيث جعل لهم أمد 3 أيام، فيمكنهم من المشاورة والمناظرة لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة، وبها معظم الصحابة، وكل من كان ساكنا في بلد غيرها كان تبعا لهم فيما يتفقون عليه، فما زالت المدينة حتى سنة 23 من الهجرة مجمع الصحابة، بل لأن كبار الصحابة فيها، حيث استبقاهم عمر بجانبه، ولم يأذن لهم بالهجرة إلى الأقاليم المفتوحة.
أهل الشورى أعلى هيئة سياسية
إن عمر -رضي الله عنه- أناط بأهل الشورى وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحدا من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحدا من الصحابة الآخرين لم يثر أي اعتراض عليه، ذلك مما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فنحن لا نعلم أن اقتراحا آخر قد صدر عن أحد من الناس في ذلك العصر، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال الساعات الأخيرة من حياته أو بعد وفاته، وإنما رضي الناس كافة هذا التدبير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين، وفي وسعنا أن نقول: إن عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا، مهمتها انتخاب رئيس الدولة، أو الخليفة، وهو التنظيم الدستوري الجديد الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المبادئ الأساسية التي أقرَّها الإسلام، ولا سيما فيما يتعلق بالشورى؛ لأن العبرة من حيث النتيجة للبيعة العامة التي تجري في المسجد الجامع، وعلى هذا لا يتوجه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ وما هو مستند عمر في هذا التدبير؟
هكذا ختم عمر رضي الله عنه حياته، ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاما صالحا للشورى لم يسبقه إليه أحد، ولا يشك في أن أصل الشورى مقرر في القرآن الكريم والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، ولم يكن عمر مبتدعا بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة، وحصر عددا معينا جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا الصديق -رضي الله عنه- بل أول من فعل ذلك عمر، ونعم ما فعل، فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت.
المصدر
- د. علي محمد الصلابي، التداول على السلطة التنفيذية، ص 149-153.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.