مع تباعد المسافة بينهما، واختلاف ألسنتهما وألوانهما، وحتى ثقافاتهما، إلا أن مصابهما تقريبا واحد. حكاية الألم تكاد تكون نسخة واحدة تروى بلغتين، أما المشاعر والأحاسيس فتخرج أيضًا من مشكاة واحدة.
أتفحّص الوجوه القادمة والمغادرة في أسواق كابل وشوارعها، فلا أراها إلا انعكاسًا لتلك التي عايشتها هناك في مقديشو؛ شعب منهك مغلوب على أمره، لم يرحمه القريب ولم يرأف به البعيد، يكدح رغم كل ما يحيط به من معوقات، متشبث بالحياة مع كثرة المثبّطات، فهذا الشعب قادر أن يصنع المعجزات إن أتيحت له الفرصة، وهو الذي شيّد وبنى عمرانًا ينافس به دولًا وأممًا تنعم بالأمن والاستقرار.
وسط معمعة الرصاص، ومن بين الركام هنا وهناك بقيت عجلة الحياة تتحرك بعزم وإباء، وإن بكثير من المشقة والعناء، وليته بهذه العزيمة واجه الحفنة المتحكمة بمصيره من بني جلدته فوضع لهم ولجشعهم حدًّا، لتتحرر البلاد والعباد، ويخرجوا من سجن المصالح الضيقة إلى سعة الصالح العام، حيث الكل مُنعم تحت حكم رشيد وعادل، يكون فيه القانون هو المهاب والمطاع.
وعودًا على بدء، ومن رحم تشابه المعاناة والألم، كان سردار، المرافق لنا في تحركاتنا في كابل وخارجها، يحكي لي قصص المواجهات والتفجيرات على الطريق الرابط بين كابل ومدينة بولي علم بولاية لوغار (جنوب شرقي كابل) -ومنها ينحدر الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني- فعلى جنبات الطريق تتراصّ البيوت الطينية، تتخللها مساحات خالية تجهّز للزراعة، وتلك عادة دأب عليها الأفغان، فالزراعة تنتشر في تلك المساحات، وحتى أولئك الذين يملكون فناءً واسعًا داخل منازلهم يفعلون الشيء نفسه، فالزراعة مجبولة في وعي الأفغان وثقافتهم.
بين تلك البيوت الطينية ومن ورائها الجبال القاحلة الوعرة، حفرت ذكريات أليمة، تتراءى لك شواهدها على جبين المنازل المشوّهة بطلقات الرصاص المتبادلة بين أطراف الصراع، بجسم سردار الكبير وضحكته المجلجة، وحركاته السريعة التي تتناقض مع بسطته في الطول والعرض، كان يسترسل في الحديث ويحكي لنا كيف كانت حركة طالبان تستهدف السيارات الحكومية: "على بعد 10 إلى 20 مترًا كانت طالبان في بعض المرات تراقب كل حركة في هذا الشارع"، يقول وهو يشير من النافذة بعد أن فتحها قليلا، انحنى إلى الأمام وألصق صدره بعجلة قيادة السيارة: "هكذا، ومع كثير من الخوف والقلق كان الناس يستخدمون هذا الطريق"، قالها وهو يعتدل في جلسته ضاحكًا، ومادًّا يده نحو المقعد الخلفي حيث كنت أجلس لأعطيه كفًّا بكفه!
يطوف بي في عالم مخيف، كأنني أشاهد فلمًا من أفلام الرعب، لكنه ليس من نسج الخيال، وإنما حقيقة عاشها زميلي سردار وكثير من أقرانه. لا، فعلا كانت يوميات عادية تأقلموا معها سنوات طويلة، وإن تركت وجعًا وندوبًا في قلبه وقلوب آلاف الأفغان ولا تزال.
توزّع قلبي بين الإصغاء لهذه القصص المروّعة، واسترجاع ذكريات تجول في ذهني مثل فيلم أشاهده للمرة الثانية، الأحداث وتفاصيلها، الحركات وإيقاعاتها، النغمات، وهنا في عالم الحقيقة هي آهات الثكالى وتأوّهات المصابين، وصرخات المفجوعين بقتل أخ أو أخت أو زوج أو زوجة..، كلها هي هي..، فقط تختلف اللغة وألوان الممثلين، وأيضا التضاريس الجغرافية لموقع التمثيل الحقيقي.
فجأة قفزت إلى ذهني قصة ذلك الطريق الضيق في مقديشو، الذي أُطلق عليه أيام الاجتياح الإثيوبي للصومال، عام 2006، "FAR JANNO"، أي إصبع الجنة.
كانت المدينة منقسمة إلى شطرين: واحد تسيطر عليه الحكومة والآخر قوى المقاومة، كان طريقًا ضيّقًا متدليًّا من فوق تلة، حيث مقر الإذاعة والتلفزيون في مقديشو، ويتوسّط منازل من الصفيح إلى أن يصل إلى سوق "البكارى"، أشهر أسواق مقديشو وأهمها.
وشتان ما بين ظاهر التسمية وحقيقة ذلكم الطريق، لم يكن جنة، كما يتبادر إلى الذهن، بل لطالما أضحى مقبرة لكثير من المدنيين، كان كناية عن الصعوبات وعذابات الاجتياز، كان بمنزلة العبور على ظهر جهنم للوصول إلى الجنة، كما في القيامة، كان ضيّقًا جدًّا، لا يسع لتجاوز شخصين باتجاهين مختلفين أو باتجاه واحد إلا بشق الأنفس، وعلى جانبيه منازل من صفيح لا تقيك من الرصاص، فضلا عن قذائف الهاون أو المدافع، وكثيرًا ما تشتعل المواجهات بين الطرفين أثناء عبور المواطنين لهذا الطريق، فيصاب ويقتل العشرات، بل في بعض الأحيان ترمي القذيفة أو الرصاصة ضحيتها وسط المنازل المهجورة، فلا يرى لها أثر.
باختصار كان الداخل فيه مفقودًا، والخارج منه مولودًا، ومع خطورته ظل الناس يستخدمونه حتى وضعت الحرب في مقديشو بعضًا من أوزارها.
ومع سعة الطريق هنا بين كابل وبولي علم، واختلاف وسائل النقل بينهما، هناك راجلان، وهنا راكبان، فالخطر كان واحدًا: موت شبه محقق وسط زخم الرصاص المتبادل بين أطراف احتكمت إلى لغة السلاح، ومن ورائهم قوى قادمة من خلف البحار تدّعي أنها تؤازر طرفًا على حساب طرف، لكنها في حقيقتها تسعى وراء غاية في نفس يعقوب، تريد أن تقضيها.
ويا لسذاجة الأطراف المحلية، فكل في فلك يسبحون واهمين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.