شعار قسم مدونات

عقدة الليرة التركية.. هل تخشى أنقرة انهيارا ماليا ضخما؟

خليل مبروك - تركيا - اسطنبول - زبائن داخل أحد المحال التجارية في السوق المصري - مراسل الجزيرة نت - صورة خاصة حديثة.
السوق المصري في إسطنبول (الجزيرة)

تثار كثير من الزوابع هذه الأيام في وسائل الإعلام العالمية حول الوضع الاقتصادي في تركيا وما يرافقه من ارتفاع في معدلات التضخم والأسعار، مع إصرار البنك المركزي التركي مدفوعا بإرادة سياسية واضحة على خفض معدلات الفائدة.

لذلك تثار العديد من التساؤلات وعلامات التعجب حول هذا الإصرار على عدم رفع أسعار الفائدة أو على الأقل إبقاؤها على مستوياتها الحالية، في الوقت الذي من الممكن فيه معالجة الوضع وخفض التضخم وتأمين نوع من التوازن لسعر الليرة التركية التي شهدت انخفاضا حادا في سعرها مؤخرا، وذلك وفقا لأبسط القواعد الاقتصادية المعروفة للجميع.

ستناول في هذا المقال تحليلا لما قد يدفع الحكومة التركية وعلى رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان على التمسك بهذا الموقف المصر على تخفيض أسعار الفائدة.

أزمة الليرة.. أسبابها ونتائجها

شهد سعر الليرة التركية استقرارا نسبيا على مدى حوالي عقد من الزمان بعيد وصول حكومة العدالة والتنمية للسلطة والتي قامت بإزالة الأصفار الستة من العملة؛ ثم استقر سعرها مقابل الدولار عند أقل من دولارين حتى عام 2013. ومنذ 2014 بدأ سعر العملة بالانخفاض تدريجيا ولكن ببطء. وانخفاض سعر العملة في ذلك الوقت لم يكن مبررا بعوامل اقتصادية، بل أساسا بسبب مضاربات مالية رعتها جهات إقليمية ودولية استهدفت سعر العملة التركية وذلك في إطار معارك سياسية مع حكومة العدالة والتنمية. وهذه المعارك السياسية التي ما زالت مستمرة بشراسة حتى اليوم سببها الأساسي هو السياسة الخارجية لتركيا في العديد من ملفات المنطقة والعالم والتي لا تتوافق بتاتا مع مخططات الدول الغربية ووكلائها الإقليميين. أما بالنسبة للتسارع الكبير في انهيار العملة التركية خلال الفترة الأخيرة فهو -بالإضافة إلى الاستمرار في استهداف تركيا بقوة من قبل القوى المعادية لها- مرتبط أيضا بتأثيرات أزمة كورونا وما لحقها من ارتفاع رهيب في أسعار الطاقة. فتركيا بلد غير منتج للبترول ولا للغاز وهي تستورد احتياجاتها من السوق العالمي وخاصة من روسيا وإيران وأذربيجان. أضف إلى ذلك انخفاض مداخيل السياحة من العملة الأجنبية والارتفاع الكبير في أسعار الشحن من الصين، كل هذه العوامل مجتمعة شكلت ضغطا كبيرا على الدولار؛ مما أدى الى انخفاض سعر العملة التركية بشكل متسارع خلال الفترة الأخيرة.

إن انخفاض سعر العملة في أي بلد بهذا الشكل المتسارع للغاية سيؤدي إلى نتائج سلبية ليست بالهينة، تبدأ من ارتفاع معدلات التضخم والأسعار وزيادة معدلات الفقر وما قد يرافقها من اضطرابات اجتماعية قد تكون خطيرة على استقرار البلد، أضف إلى ذلك اهتزاز الثقة الداخلية والخارجية بعملة هذه الدولة؛ مما يؤدي إلى هروب الاستثمار. لكن من جهة أخرى هناك بعض النتائج الإيجابية لانخفاض سعر العملة، أهمها تشجيع الصادرات وتشجيع الاستثمارات المدفوعة بانخفاض معدل الفوائد على الاقتراض من البنوك.

أسعار الفائدة وأثرها على سعر العملة ومعدلات التضخم

كما أشرنا أعلاه وكما يعلم الجميع؛ فإن لأسعار الفائدة تأثيرا مباشرا وفوريا على مسائل سعر العملة والتضخم. وسعر الفائدة هو السعر الذي يدفعه البنك المركزي للبنوك التجارية مقابل ودائعها. وإن سبب التأثير بسيط للغاية؛ فرفع معدلات الفائدة سوف يحفز على إيداع المزيد من النقود في البنوك، وذلك طمعا في الحصول على أرباح مجدية على الإيداعات بدون التعرض لمخاطر الاستثمار في السوق. وهذا الإقبال على الإيداع في البنوك سوف يقلل الكتلة النقدية الجارية في السوق مما سيسهم مباشرة في رفع سعر العملة وانخفاض الأسعار نتيجة لانخفاض الطلب مقابل العرض.

في المقابل، فإن خفض أسعار الفائدة سوف يدفع المودعين لسحب أموالهم من البنوك من أجل تشغيلها في قطاعات اقتصادية واستثمارية زراعية أو صناعية أكثر جدوى من مجرد تركها مجمدة في البنك. هذا السحب من البنوك سيزيد الكتلة النقدية في السوق وبالتالي يخفض سعر العملة ويزيد الأسعار مدفوعة بزيادة الطلب نتيجة زيادة السيولة النقدية في أيدي الناس.

إذن، في النتيجة، خفض معدلات الفائدة هو طريقة سريعة وفورية لخفض التضخم وكبح المسار التراجعي لليرة. والسؤال هنا، لماذا تصر إذن الحكومة التركية على تخفيض سعر الفائدة رغم الأزمة المتسارعة التي تعيشها البلاد؟

أسباب الإصرار الحكومي التركي على تخفيض أسعار الفائدة

من المعروف عن حكومة العدالة والتنمية العمل بتروي والنظر بطريقة إستراتيجية للأمور وتنفيذ أهدافها بطريقة الخطوة خطوة مع مراعاة الظروف. لذلك فإن إصرارها على تخفيض الفائدة في هذا الوقت الحرج الذي تشهد فيه الليرة ضغوطا كبيرة نتيجة لمزيج معقد من العوامل التي ذكرناها أعلاه هو أمر يجب التوقف عنده.

من المعروف أن الحكومة التركية ذات التوجه الإسلامي الواضح تعادي الفائدة أساسا من منظور أيديولوجي. فالفوائد الربوية محرمة بشكل قطعي في الشريعة الإسلامية وتعتبر من أكبر الكبائر. ومن وجهة نظر اقتصادية بحتة، ترى الحكومة التركية أن الفوائد البنكية المرتفعة هي مرض حقيقي يمنع بناء نظام اقتصادي حقيقي قوي ومتين. والسبب في ذلك هو أن معدلات الفائدة المرتفعة تدفع رؤوس الأموال إلى البنوك طمعا في الحصول على فوائد مرتفعة دون التعرض لأي مخاطر استثمارية في قطاعات الاقتصاد الحقيقي. فلو كان معدل الفائدة 20%، هذا يعني أنك إذا أودعت 100 ألف في البنك فإنك ستحصل في نهاية العام على 20 ألف فوائد على إيداعك دون أن تتعب نفسك أو تتعرض لأي مخاطرة. وهذا التوجه يؤدي بشكل مباشر إلى تقليل الاستثمار في المشاريع الاقتصادية الحقيقية بالزراعة والصناعة وغيرها، مما يعني في النهاية هيكلا اقتصاديا هشا ومكشوفا على المخاطر لاعتماده بشكل أساسي على القطاع المالي. استنادا لذلك، ترى الحكومة التركية أن بناء اقتصادي قوي ومتنوع يتطلب بالضرورة تخفيض أسعار الفائدة لدفع أصحاب رؤوس الموال لسحب أموالهم المجمدة في البنوك من أجل استثمارها في قطاعات اقتصادية حقيقية أكثر جدوى، مما يعني مزيدا من فرص العمل وتوزيعا أكثر عدالة للثروة. فصاحب الـ100 ألف دولار أعلاه سيسحب نقوده من البنك ليفتتح بها مصنعا يشغل عشرات العمال الذين يعيلون أسرا ويدفعون الضرائب لخزينة الدولة ويسهون بشكل فعال في اقتصاد الدولة بعد أن كانوا عاطلين عن العمل؛ لأن تلك الأموال كانت مجمدة في البنك. وستزيد أيضا صادرات الدولة وتقل وارداتها وتنخفض معدلات البطالة ويتحسن ميزانها التجاري مع مرور الوقت.

حسنا، قد تنفق مع كل هذا، لكن لماذا الآن وفي هذا التوقيت الحرج؟

تبدو الحكومة التركية مصرة ومستعجلة لتنفيذ إستراتيجية تخفيض أسعار الفائدة، حتى على حساب شعبيتها التي من الممكن أن تتأثر نتيجة لانهيار سعر الليرة والزيادة الجنونية للأسعار وخصوصا إن أخذنا بعين الاعتبار أن تركيا ليست بعيدة عن موعد الاستحقاق الانتخابي القادم عام 2023، علما أن ثمار هذه الإستراتيجية قد تكون طويلة الأجل. فلماذا هذا الاستعجال الذي قد يبدو قاتلا؟

كان بإمكان الحكومة التركية أن تنتظر عدة سنوات حتى تبدأ عملية الاستغلال التجاري للثروات الباطنية الضخمة من النفط والغاز التي حاربت العالم من أجلها واكتشفتها في البحرين المتوسط والأسود. وإن استغلال هذه الثروات سيدخل مخزونات ضخمة من العملة الأجنبية على خزينة الدولة ويساعدها بالتالي على ضبط سعر العملة بمرونة أكبر، وبالتالي تنفيذ إستراتيجيتها بقدر أقل من المخاطر.

وإن استعجال الحكومة التركية في تنفيذ هذه الإستراتيجية قد يرجع برأينا لرغبتها في حماية تركيا وشعبها من مخاطر زلزال مالي مدمر يفوق الزلزال المالي الذي ضرب الاقتصاد العالمي عام 2008 نتيجة لانهيار بنك ليمان برذرز في الولايات المتحدة. هذا الزلزال منتظر منذ فترة وتوقعه العديد من كبار المحللين الماليين والاقتصاديين، إلا أن أزمة كورونا ربما تعجل وقوعه بوتيرة أسرع مدفوعا بالارتفاع الهائل في الديون الحكومية وارتفاع مستويات التضخم العالمي بشكل غير مسبوق. وفي حال وقوع مثل هذا السيناريو فلن يكون هناك بلد بمنأى عن تأثيراته نتيجة لتداخل الاقتصاد العالمي بشكل كبير. لكن الحكومة التركية قد تستهدف تخفيف آثاره على الاقتصاد من خلال دفع الناس إلى سحب نقودها من البنوك والاستثمار في أصول حقيقية. فالأموال المودعة في البنوك هي أول ما سيتبخر في حال وقوع مثل هذا السيناريو، فهل تتحرك الحكومة التركية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان؟

في المحصلة

إن الإستراتيجية التركية برأينا هي إستراتيجية وطنية شجاعة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وهي وطنية لأنها تحمل في طياتها عصرا من الرفاه الحقيقي إن استطاعت الصمود والنجاح. وهي شجاعة لأنها محاطة بكثير من الأخطار، وعلى رأسها التململ الشعبي الناتج عن انخفاض الليرة وارتفاع التضخم على المستوى المنظور. وهذا يدل بشكل واضح على أن الحكومة التركية تضع المصلحة القومية للبلاد فوق كل اعتبار انتخابي أو مصلحي سياسي، حتى ولو على حساب شعبيتها، على عكس الكثير من الحكومات التي باتت مرتهنة لإملاءات أرباب المال. فهل يعي الشعب التركي هذه الحقائق ويصبر نفسه مع حكومته حتى تتمكن تركيا من عبور هذا النفق بسلام؟ كلنا نأمل ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.