شعار قسم مدونات

الحوار الإسلامي المسيحي.. إلى أين؟

blogs حوار الأديان
الاستبداد لا يُفرق بين مسلم ومسيحي، ففيه الكل سواء، والأحلام المشتركة هي التخلص من ذاك الاستبداد القائم (رويترز)

لو أخذت جولة في عالم اليوتيوب لوجدت قسيسا يزدري الإسلام ونبيه بأبشع الصفات والألفاظ، ورأيت شيخا معمما يحط من قدر الدين المسيحي. وقبل أن تشتعل عاطفتك -أيا كانت ملتك- عليك أن تسأل نفسك من هؤلاء؟ ومِن أين جاؤوا؟ وكيف ظهروا؟

علة الفتن هي الاستبداد

في رواية "شيكاغو" للكاتب العالمي علاء الأسواني، هناك شخصية القبطي "أكرم دوس" الذي غادر مصر بعد تعرضه للظلم من أستاذه الجامعي المُسلم، فاتبع ذلك القبطي ما يُسمى في علم النفس "التحيز الانتقائي"، أي أنه تحيز لرأي واحد بناء على تجربة ما، فعمم رأيه على الجميع، وفي حال أكرم دوس -الذي ظُلم من أستاذه- عمم وجهة نظره على الجميع، فصار يُكن العداء للإسلام والمسلمين، ظانا أن الإسلام أحد صور الفساد والظلم.

ظلت تلك وجهة نظره حتى قابل "رأفت ثابت" المسلم الذي غيّر رأيه بعد عدة محاورات بينهما، دلل من خلالها على الآتي:

  • "القبطي مظلوم، مثل المسلم، ففي الأنظمة المستبدة تسود المساواة في الظلم".
  • أراد "علاء الأسواني" من ذلك الإشارةَ إلى أن الظلم والاستبداد هما السبب الرئيسي وراء اندلاع الفتن الطائفية وظهور أمثال "أكرم دوس".

فلو وُجد العدل لما وُجد الكره المكبوت في نفوس البعض، والذي ينتظر الفرصة السانحة حتى ينفجر.

توابع الاستبداد.. الصور النمطية

إلى اليوم -مع الأسف- يوجد البعض من المسلمين والمسيحيين الذين لا يعرفون عن دين بعضهم شيئا، ولم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال والبحث، فما أسهل إلقاء التهم لزيادة انحيازنا التأكيدي اتجاه الآخر، فتنشأ الصور النمطية والتي أخجل -بوصفي شابا مسلما عربيا مصريا- أن أذكرها، لكن حاول أن تتخيلها؛ حين يمر أب مسلم مع ابنه بجوار الكنيسة، فيسأله الابن عن تلك البناية، فيكون رد الأب "هذه كنيسة.. أعوذ بالله!"، كذلك الحال مع أب مسيحي إذا مر من أمام مسجد، يخلع على المسلمين ونبيهم صفات لا يصدقها عاقل ولا مجنون حتى.

تلك الصور النمطية، لم تنبع بين ليلة وضحاها، بل نشأت نتيجة الجهل؛ والجهل أساسه التعصب، والتعصب يتأتى من الظلم، ورأس الظلم الاستبداد، ومتى وقع الاستبداد تقع الفتن.

المسيحي في الحضارة الإسلامية

حظي أهل الكتاب بمكانة مرموقة في ظل الحضارة الإسلامية، ولنضرب أمثلة سريعة تقتل كل شك يحاول العابثون بثه، ففي الدولة العباسية وضع هارون الرشيد كل المدارس تحت إدارة المسيحي النسطوري "حنا مسنية" (يوحنا بن ماسويه)، فقد قال الفيلسوف الأميركي مستر دراير "كانت إدارة المدارس مفوضة مع نبل الرأي وسعة الفكر من الخلفاء إلى النسطوريين تارة وإلى اليهود تارة أخرى، لم يكن يُنظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم ولا إلى الدين الذي ولد فيه، بل لم يكن يُنظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة".

ولو أردنا ذكر أسماء العلماء المسيحيين الذين حظوا بمكانة في الحضارة الإسلامية لما استطعنا، لكن سنحاول:

  • جورجيس بن بختيشوع: كان طبيبا لدى المنصور العباسي، وفيلسوفا كبيرا لا يُشق له غبار.
  • تيوفيل بن توما النصراني المُنجم: كان على مذهب الموارنة، يعد من أعظم المؤرخين في عهد الخليفة المهدي.
  • بختيشوع الطبيب وجبريل ولده، ويوحنا بن ماسويه النصراني السرياني: اشتهِر ثلاثتهم في حركة الترجمة إبان حكم الرشيد وابنه المأمون.
  • يوحنا بن البطريق: مولى المأمون، والذي عينه الأخير أمينا على ترجمة الكتب (من أرقى المناصب وقتذاك).
  • سلمويه بن بنانة النصراني: طبيب المعتصم.
  • حنين بن إسحاق النصراني: أشهر مترجمي كتب أرسطو في عهد المتوكل.

هذه بعض الأمثلة القليلة، فقد كان المسيحي كما المُسلم؛ مساهما في بناء تلك الحضارة العريقة.

ديالكتيك دون حوار

ما يدور الآن في أروقة الفضائيات وعلى السوشيال ميديا بين صفين من المسلمين والمسيحيين، يدعي كلّ منهما أنه يملك الحقيقة المطلقة، ويضيق صدر كليهما بالآخر، فلا يقبلان الاختلاف ولا التنوع، يعكس ذلك حجم ما وصلت إليه بلداننا العربية من جهل واستبداد، فسرعان ما تندلع الاشتباكات إما في الأردن جراء الاستبداد القائم هناك، أو مصر، أو لبنان. لماذا؟ لأن الاستبداد داؤنا.

وحين تنظر للحوار الإسلامي المسيحي اليوم ستجده خاليا تماما من المنطق، حوار قائم على فن المبارزة والمنافسة؛ مَن سيفوز وينتصر في تلك الجولة، أنا أم أنت؟

هل بمثل تلك الحوارات تنهض الأمم؟ بالتأكيد لا.

فأين المسلم الآن من قوله تعالى {ولا تُجادلوا أهلَ الكتاب إلَّا بالّتي هي أَحْسنُ}، وقوله {ادْعُ إلى سبيلِ ربّكَ بالحكمةِ والمَوعِظةِ الحسنةِ وجادلْهم بالَّتي هي أحْسنُ}، وفي سورة البقرة {لا إكراهَ في الدّين قد تّبيَّن الرُّشدُ من الغيّ فمن يكْفرْ بالطّاغوت وَيؤمِنْ باللّهِ فقدِ استمسكَ بالعُروةِ الوُثقى لا انفصامَ لها واللَّهُ سمِيعٌ عليمٌ}، وفي الكهف {وقلِ الحقّ من رَّبِّكُمْ فمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومن شاء فَليَكْفُرْ}، أين المسلم من هذا كله؟

وأين المسيحي من قول السيد المسيح في إنجيل متى "وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم"؟.

فكلها تعاليم لو التزم بها الاثنان لصلح حالهما، ورق قلبهما؛ المسلم من سَلم الناسُ من لسانه ويده، والمسيحي مَن لا يُخالط الشر أبدا، ساعٍ إلى الخير متسامح ولو كان على حساب خده الأيمن فالأيسر.

بين البارحة واليوم

في الأمس، منذ ما يقرب من 100 سنة، كان هناك فيلسوف عظيم اسمه جبران خليل جبران، والذي لم يرَ في الأديان أي اختلاف، بل وجد أنها سبل تؤدي إلى غاية واحدة، وهي الله، فلطالما كان يُعلن عن حبه الشديد وولعه بشخص النبي محمد وصهره الإمام علي.

وهذا زعيم الأقباط المصري السيد "مكرم عبيد" دائم الاستشهاد بآيات كتاب الله يقول -في جريدة الهلال معربا عن اعتزازه وانتمائه للهوية العربية الإسلامية في مقال تحت عنوان "المصريون عرب"- "نحن عرب ويجب أن نذكر في هذا العصر دائما أننا عرب، قد وحدت بيننا الآلام والأحلام، ووثقت روابطنا الكوارث والأشجان، وصهرتنا المظالم وخطوب الزمان، فأحدثت منا أمما متشابهة متماثلة في كل ناحية من نواحي الحياة".

هل انتبهت لقوله "وحدت بيننا الآلام والأحلام"؟، فالآلام هنا "الاستبداد الذي لا يُفرق بين مسلم ومسيحي، ففي الاستبداد الكل سواء"، والأحلام هنا "التخلص من ذاك الاستبداد القائم".

ولعلّك سمعت عن شبلي شميل العلماني الذي كان أول الأمر كاثوليكيا ثم ألحد، أرسل للشيخ رشيد رضا قبل ذلك يقول له "أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيما، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع، والإخلاص في القول، وذلك أوثق بيننا لعرى المودة".

أي أدب هذا اتسم به هؤلاء القوم في الحوار؟! فليس بغريب أن تجد شبلي شميل يقول في النبي والقرآن بعد ذلك

دَع مِن محمّد في سُدى قرآنهِ

ما قَد نَحاهُ لِلحمة الغاياتِ

إِنّي وإِن أَكُ قَد كَفرت بدينهِ

هَل أَكفرنّ بِمُحكم الآياتِ

أَو ما حَوَت في ناصِعِ الألفاظِ مِن

حِكمٍ رَوادِعَ لِلهوى وعظاتِ

نِعمَ المدير وَالحكيمُ وَإِنّه

ربُّ الفَصاحَةِ مُصطفى الكلماتِ

مِن دونهِ الأَبطالُ في كلِّ الوَرى

مِن سابقٍ أو لاحقٍ أو آتِ

في الأخير

ما يحدث الآن من حوار إسلامي مسيحي، ليس من الدينَين في شيء، فينقص ذلك الحوار مزية الأدب والأخلاق بين المتناظرِين، كُلٌ يريد إثبات رأيه ولو على حساب الآخر، بأساليب الإهانة والتشهير وإضرام الفتن، ليكون الخاسر الوحيد هو العربي المسكين.

فمن الذي يقف وراء ما يحدث؟ مما لا شك فيه أن عمليات التبشير ليست سوى إحدى آليات الاستعمار الحالية، لكن هناك بعض المسلمين حين يذبّون عن دينهم، يتسمون بنفس سمات هؤلاء المُبشرين، من سب ولعن وسخرية، وهذا يُعد غريبا ومرفوضا في أوطاننا وأدياننا.

فقديما قال شوقي على قبر الوزير المسيحي:

الدينُ لِلدَيّانِ جَلَّ جَلالُهُ

لَو شاءَ رَبُّكَ وَحَّدَ الأَقواما

هَذي رُبوعُكُمُ وَتِلكَ رُبوعُنا

مُتَقابِلينَ نُعالِجُ الأَيّاما

هَذي قُبورُكُمُ وَتِلكَ قُبورُنا

مُتَجاوِرينَ جَماجِما وَعِظاما

فَبِحُرمَةِ المَوتى وَواجِبِ حَقِّهِم

عيشوا كَما يَقضي الجِوارُ كِراما

فبحرمة الموتى وواجب حقهم لا تُعيروا لمثل هؤلاء الانتباه، وعيشوا في سلام ووئام كما كنا عبر الزمان.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.