من يقرأ عن الشام "دمشق" وتاريخها، لا بدّ أن يتوقف كثيرا ليستمتع بالقراءة أكثر عن تدينها وأخلاقها ووسطيتها وثقافتها وعلمائها ومفتيها، فإنّ الشام مشهورة بحبّها للعلم وطلابه فيها، سواء من أهلها أو من غيرهم، وهي مشهورة أيضا بوفرة العلماء المجتهدين والأئمة بين ربوعها، ومنهم -على سبيل الذكر لا الحصر- الإمام النووي وابن كثير وابن القيم والمزي وابن عساكر وابن تيمية وغيرهم كُثر رحمهم الله وأحسن إليهم.
إنّ عهد الفتوى والمفتي قديم جدا، فهو يعود إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثمّ إلى الصحابة الكرام من بعده، ثم التابعين إلى نشأة المذاهب وانتشارها في البلاد. ومع توسّع الدولة الإسلاميّة صار لكلّ بلد أو ولاية مُفت يقوم بعمل القاضي والإفتاء معا، ثمّ نشأتْ دور القضاء والعدل، فصار منصب القاضي مختلفا عن منصب المفتي. ولقد مرّ على الشام -وأقصد بها دمشق- من القرن العاشر الهجري حتى نهاية القرن الثاني عشر 36 مفتيا، أولهم الشيخ شمس الدين محمد بن رمضان الدمشقي المتوفى سنة 913 للهجرة، وآخرهم الشيخ عبد الله بن محمد بن طاهر بن عبد الله الحسيني المرادي الدمشقي المتوفى سنة 1206 للهجرة، رحم الله الجميع.
أمّا في القرن الرابع عشر، فقد لمع نجم الشيخ العلامة الطبيب المفتي أبو اليسر عابدين رحمه الله تعالى المتوفى سنة 1401 للهجرة. وبحسب ما قرأنا وعرفنا عن هؤلاء العلماء الكرام رحمهم الله تعالى جميعا، فإنّهم كانوا جميعا من أهل علم وتقوى وورع، وما عُهد عن أحدهم المحاباة والتملق، رحمهم الله وأحسن إليهم.
إلى أنّ جاء عهد من أخذ بالبلاد إلى مرحلة مُظلمة قرابة نصف قرن، ما مرّ على الأمّة الإسلاميّة شبيه لها من الفساد والظلم والطغيان، وهو عهد حافظ الأسد ومعه مفتيه الشيخ أحمد كفتارو، ثمّ ابنه بشار الأسد ومعه خليفة كفتارو وتلميذه الشيخ أحمد بدر الدين حسون، عليهما من الله ما يستحقانه لما فعلوا في البلاد والعباد. ولا أريد التعمق في كيفية نيلهما منصب مفتي الجمهورية، فهذا أمر يطول بحثه ولا سيما أنّ عهدهما قريب، والكثير يعلم عمالتهما للنظام الأسدي، فبذلك فازا برضاه وقربه.
وفي هذه الأيام، قام رأس النظام السوري بشار بإصدار قرار يُلغي من خلاله منصب المفتي العام للجمهورية، ولا شكّ أنّ هكذا قرار يحمل في طياته جريمة عظيمة (كيف لا ومُصدِره مجرم!) في حقّ شعبنا المسلم، وثقافتنا الإسلامية العريقة، وتاريخنا العربي وإرثنا الحضاري.
لقد اجترأ على توقيع هذا القرار رئيسٌ غير شرعي لدى غالبية الشعب السوري (ولست مبالغا)، ومنهم ضعفاء شعبنا المظلومين، هؤلاء الذين يرزحون تحت سطوته وظلمه وفساده، بل إنّ العديد من أبناء مِلتهِ لا يعترفون به ضمنيا ويكرهونه، ولكنهم أجبروا على الرضوخ والاستسلام خوفا على أرواحهم، ومنهم من صرّح بذلك علانيّة. وبما أنّ الصادر عنه القرار غير معترف به أصلا، ولا يعتبر رئيسا شرعيا، فإنّ أي قرار يصدر عنه هو غير شرعي من باب أولى، وما بُني على باطل فهو باطل.
ومن جهة أخرى، فإنّ القيام بإلغاء منصب مُتعلق بالدين، ويعرفه السوريون منذ عقود بل منذ قرون، يُعتبر انتهاكا صريحا للمسلمين السنّة في سورية، بل الخطوة التالية في عمليّة التغير الديمغرافي التي بدأ بها منذ بداية الثورة السورية، حيث قام بتهجير السوريين السنّة بشتى الوسائل، ثمّ استقدم الشيعة المرتزقة، فوطّنهم وسمح لهم بالاستيلاء على بيوت وأراضي وعقارات المواطنين السورين السنّة، ثمّ مَنحهم الجنسية السورية، وبعد ذلك جاءت المرحلة الآن بمسح الصفة الدينية للمفتي العام التي كان السوريون يَستظلون بها قبل عهد حافظ الأسد ومفتيه أحمد كفتارو، وبذلك أصبحت قيادة البلاد الدينيّة تابعة لمجلس فقهي يجمع كلّ المذاهب، السنيّة منها (بعمائم داعمة للمجرم) إضافة إلى طوائف أقليّة ليس لها علاقة بالإسلام إلا بالاسم فقط، يتخفون تحت تلك التسمية فيعتبرون أنفسهم مذهبا إسلاميا.
وبعد هذه الخطوة التي جاءت إثر موجات التهجير المختلفة، وآخرها الحاليّة الجارية في تسهيل خروج السوريين السنّة إلى بيلاروسيا وغيرها من الدول، وفي نفس الوقت الذي تبذل فيه الدول العربية جهدا لإعادة تدوير النظام، لا أستبعد بعد مُدة وجيزة أن يعلن مجلس الوزراء ومجلس الشعب أنّ أهل السنّة في سورية هي أقليّة أو مُساوية للشيعة، كما جرى مع جارنا الشقيق العراق. فالمشروع الإيراني الشيعي الفارسي قائم على قدم وساق، لا تضره تلك الفقاعات الأميركية والإسرائيلية المؤيدة له.
لقد تمادى بشار الأسد كثيرا في إذلال شعبنا العظيم، فهو في كلّ يوم يخرج بكارثة جديدة، تدلّ على نيته الخبيثة في مسح حضارة عريقة اسمها الحضارة الإسلاميّة السوريّة وبشتى الوسائل، ومع كلّ ذلك نقول: لقد دمّر المجرم السفاح البلاد، وقتل وسجن وهجّر وشرّد العباد، ولم تبق جريمة إلا وعليها توقيعه وبصمته، فهل نحزن على قرار يخرج به الآن كإلغاء منصب المفتي؟!
نعم، لا نعترف بشرعيّة رئاسة بشار الأسد، وكذلك لا نعترف بالقرارات التي يُصدرها، وإنّ هذا القرار ليس بشيء أمام جرائمه الكبرى في حقّ شعبنا المظلوم، ونقرُّ بأنّ منصب المفتي في عهد عائلة الأسد منصب تشبيحي تملقي، يقوم عليه مُفتٍ مأجور، ينافق لسيده وولي نعمته، ولا ينظر إلى مصلحة الشعب وقضاياه، وبينه وبين كلمة الحق أميال شاسعة، ولكن مع كلّ ذلك علينا أن ندافع عن هذا المنصب، ولا أقصد به منصب المفتي في عهد البعث والمخابرات والعائلة الأسدية، بل منصب المفتي عموماً الذي كان متألقاً طوال العقود التي مرتْ على سوريا قبل عهد الأسد وكفتارو، فدفاعنا عنه هو دفاع عن ديننا وتاريخنا وثقافتنا وحضارتنا الإسلاميّة والعربية والسورية التي يسعى المجرم جاهدا أن يجعلها في مهبّ الريح.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.