شعار قسم مدونات

نافذة على كتاب "الطريق من هنا" للشيخ محمد الغزالي

الموسوعة - العالم المصري الراحل محمد الغزالي mohamed alghazali
الداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي (الجزيرة)

إذا استهواك عنوان كتاب ما، سرت خطوات نحو قراءته، فإذا وجدت في نفسك ارتياحا للكاتب، فهذا يعني أنك ستتبع ذلك بخطوات أخرى.

شيءٌ من هذا حصل لي مع كتاب الغزالي الذي وجدتني مدفوعا إلى قراءته والبحث فيه، لأجده نظرات متأملة، وصرخات متألمة لواقع أمة أثخنتها الجراح، وكبّلتها القيود، وضاقت بها السبل؛ وبين النظرات والصرخات تنطلق همسات حانية مشفقة تقول للمسلمين اليوم: "الطريق من هنا".

ذلك أنّ الأمة التي تخلفت عن دورها الريادي، وحلّ بها الضعف والهوان بعد أن كانت في مقدمة الأمم لا بد أن تنهض من جديد. وتلك مهمة تستدعي تشخيصا سليما للواقع، ورؤية واعية لعلاج الخروج من النفق المظلم. ولكي تأخذ الأمور مسارها الصحيح يسارع المؤلف للإشارة في مقدمة كتابه إلى مسألة يراها من الأهمية بمكان، إذ يرى ناشدي الإصلاح فريقين: فريقا يتجه إلى الحكم بوصفه أداة سريعة لتغيير الواقع، وفريقا يتجه إلى الجماهير يرى في ترشيدها الخير كله. وهنا، يسوق الغزالي حججه التي تدعم انحيازه لأولوية الاتجاه إلى الجماهير، فمجرد الاستيلاء على السلطة من دون وجود إصلاح حقيقي هو انتقال من فساد إلى فساد، ومن سرقة إلى سرقة. في حين أن إصلاح الشعوب -بالمقابل- هو طريق المرسلين.

ثمّ إنه لا بد بعد ذلك من إزالة وهم قد يعلق بالأذهان، ويجعل رؤيتنا لحقائق الأشياء مشوشة. فالاستعمار الذي خلا عن بلاد المسلمين لم يترك سكانها إلا وقد امتلأت نفوسهم به، وارتبطوا ماديا وأدبيا بمواريثه، فهم راكنون إليه معتمدون عليه، فهو قد جعل لغته مسيطرة بينهم، وحارب العربية لغة دينهم، وجعل الحركة الاقتصادية في أيدي أتباعه أو العناصر الموالية له، وأتاح للتبشير الصليبي أن يمتد ويتجذر. ولئن أحس أهل الغيرة بخطورة المعركة، فإن تعاملهم مع الخطر كان كفعل الطبيب الذي جاءه مصاب في رأسه فصنع له جبيرة على قدمه. إنهم لم يدرسوا بعمق أخطاء المسلمين التي أوصلتهم إلى التخلف، ولم يحققوا مطلب دينهم في إصلاح كل عمل وفي عمل كل صالح، ولم يتوصلوا إلى فهم صاف صادق لما يتطلبه الإسلام في الميادين التي انهزم فيها المسلمون روحيا وحضاريا.

في استعراضه لميادين الهزيمة تلك، يبدأ الكاتب بميدان العلم، فهو يرى أنكى ما أصابنا جاءنا من الجهل الكثيف بشؤون الدين والدنيا، أو بحقائق الأرض والسماء، ويرى أن الشيطان يضحك طويلا عندما يرى جهازا علميا ضخما عند الملاحدة الذين يرفضون عقيدة الألوهية، وجهازا علميا ضخما عند المشركين الذين يجعلون الآلهة مثنى وثلاث ورباع، فإذا جاء أرض الإسلام لم ير فيها إلا علما مستوردا من هنا ومن هناك، لأنه لا منابع له في أرضه. وهذا الواقع يعني وجود جفوة بين المسلمين ودينهم، فقد جعل الله معرفته والحفاظ على حقوقه مربوطين بدراسة الكون والتمكين فيه، فإذا كنا خفافا في هذه الدراسة، أو كنا ذيولا لغيرنا، فقد فرّطنا في حقوق الله. ثم إنّ التخلف العلمي قد أعجز المسلمين عن إيجاد حلول لمشاكل اجتماعية يعانونها، فباتوا يحتاجون إلى الآخرين ليستخرجوا لهم ثرواتهم، ويديروا لهم طرائق تأمين مساكنهم وغذائهم ومياههم وتسخير القوى الطبيعية لمصالحهم.

ومع الهزيمة في ميدان العلم تأتي هزيمة أخرى في جانب الأخلاق، ويقول الغزالي إنه طاف في أقطار إسلامية كثيرة فرأى سطوة العرف أقوى من سطوة الشرع، واتّباع الهوى أهم من اتّباع العقل، ويحدثنا عن الإسراف والتبذير، وعن النفاق الاجتماعي وخلل المعايير في قبول الزوج، وعن تزوير الانتخابات لسرقة المناصب، وعن جرائم فظيعة في طريق الوصول للسلطة، وعن الغش في الامتحانات أو السلع أو المباني أو رصف الطرق. فأين ذلك مما عرفناه من تعاليم الإسلام، ومن سيرة رجاله، ومن حقيقة اقتران الدين والخُلُق؟!

بعد ذلك، يلتفت صاحب الكتاب إلى عالم المرويّات عند المسلمين، فيُحزنه أن يرى الأمة الإسلامية محكومة بجملة من الأحاديث المتروكة والمنكرة التي تطرد أمامها الصحيح والمتواتر، فيؤكد أنّ التعامل مع عالم المرويّات لا محيص عنه، ولا عيب فيه، لكن العيب يأتي من تلقي الأخبار من دون تمحيص، ومن قبول الروايات بدون رويّة.

ولأن مظاهر الضعف راسخة في الأمة، فإن أحقاد أعدائها انتفشت وانتعشت، وأخذت تمارس دورها في العمل على محاصرتها لكيلا تقوم لها من جديد قائمة.

إن واقع المسلمين مأساويٌّ، ومظاهر الضعف تسيطر عليهم، والخطوب تحيط بهم؛ لكن ذلك كله لا يزعزع إيمان الشيخ الغزاليّ بأن هذه الأمة ستنهض من جديد، وسيعود لها الحكم -إن شاء الله- طال الزمن أو قصر، غير أنه لن يعود حتى تختفي من بيننا أوهام كثيرة في فهم معنى السلطة، وحتى ترقى أمتنا ماديا ومعنويا؛ فتكون الدولة في يدها لخير الجماهير، لا لإرضاء فرد مغرور. ولأن الدولة المحترمة وليد طبيعي لمجتمع محترم، والحكومة الصالحة نتيجة طبيعية لأمة صالحة، فإن الخلاص المأمول والمنتظر لا بد من أن يسبقه تعافي الشعوب من بلائها، وبرؤها من سقامها، وهذه عملية تحتاج إلى مراحل متتابعة وسنين متطاولة من العلاج المتأني الصبور يتابعه ورثة شرفاء للحضارة المعتلة. وهذا سيترافق مع أداء أمة الخير لرسالتها، وعودة دولة الإسلام إلى وظيفتها الأولى في أن تُري الأمم الأخرى آفاق الخير الذي تدعو إليه، مشرقة في حياتها هي، وفي أخلاقها وتقاليدها، وعباداتها ومعاملاتها، وآدابها وفنونها وملاهيها، وأسواقها وقراها ومدنها، أي في جميع أنشطتها التي تكشف عن أعمالها وآمالها.

المحطة الأخيرة للكتاب اختارها المؤلف بحكمة لتكون وقفات مع المحطة الأخيرة لنبينا في حجة الوداع، ليذكرنا بوصايا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يودع المسلمين، ويدعهم يواجهون الحياة وحدهم، وليسوا وحدهم، فهو يقول لهم: معكم كتاب الله وسُنّتي، ميراث لا يعدله ميراث، احذروا التهاون به، فمن فعل ذلك، "فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق" [سورة الحج: 31]

وقبل أن يغلق القارئ الكتاب يجد نفسه محاطا بأفكار وهواجس، لا تتركه إلا وقد أنشأت لديه سؤالا ينتظر الإجابة: ما دام النهوض بالأمة آت لا محالة، فأين سيكون موقعي على خريطة التغيير؟ أسوف أكون مع المساهمين في إزاحة العوائق، أم عائقا يسعى الآخرون لإزاحته؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.