لا بد أنك قد جالت في نفسك بين فترة وأخرى الرغبة في حفظ القرآن الكريم، لكن سرعان ما قطعت هذه الرغبة بكلمة "لا أستطيع"، وكنت تردد على نفسك "مستحيل"، الأمر الذي جعل العقل الباطني لديك قد حسم الموقف بعجزك عن ذلك، فقد أوهمته بأنك لا تستطيع، حتى إن كنت بالأصل لم تحاول أو حاولت محاولات خجولة سرعان ما جعلتك تقول: "لا أستطيع".
قد تقول إنني كبير في السن، وسرعان ما يتفلت مني حفظ الآية الواحدة، فكيف بحفظ القرآن الكريم؟!
لكن سأخبرك شيء سمعته بنفسي ورأيته بعيني، حتى أكون بذلك قد وصلت إلى مرحلة اليقين وأنا أخبرك أنه مهما كان عمرك فإنك "تستطيع". لقد قابلت العديد من حافظات كتاب الله تعالى وقد تجاوزت أعمارهن السبعين، بل أكثر بكثير، فكانت الجدة تتسابق مع حفيدتها في الحفظ والتسميع والتثبيت.
والآن لنتأمل سويا قول الله تعالى في كتابه العزيز: "ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر" [القمر: 17]، أي سهلناه للإدكار والاتعاظ، بأن وشحناه بأنواع المواعظ والعبر الشافية، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد، بحيث يستطيع أن يحفظه الصغير والكبير أيضا، والعربي وكذلك العجمي وغيرهما.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلّ ميسّر لما خلق له"، يقال ميسّر: مهيّأ. وقال مجاهد: يسّرنا القرآن بلسانك: هوّنّا قراءته عليك، وقال مطر الورّاق: "ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر" قال: هل من طالب علم فيعان عليه.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: لولا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى.
وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن.
فهذا من إعجاز القرآن الكريم. فرغم بلاغته وكلماته وأكثر مما يمكن القول فيه، إلا أن الله عز وجل برحمته يسره للتلاوة، ودليل على ذلك أن الطفل يستطيع تلاوته حتى إن كان لم يحصل على دورات في التجويد، إنما اعتمد على التلقين والاستماع ومع التكرار أصبح يستطيع أن يردد آيات كتاب الله تعالى، فهذا إن كان حال الصغير الذي ربما لم يصل لمرحلة القراءة بالأصل فكيف بالكبير الذي يعرف القراءة.
والأمر لا يقتصر على العرب في التلاوة فقط، إنما الأعجمي أيضا الذي لا يعرف العربية ومع ذلك يعرف تلاوة القرآن الكريم، وهذا رحمة كبيرة من الله عز وجل على عباده.
ولكن عليك الأخذ بالأسباب، فلا بد أن تتعلم أحكام التجويد، لا تقل "ليس لدي وقت"، فكما تعلمت علم الهندسة والطب والفيزياء والأحياء وغيرها من مجالات العلوم المختلفة لسنوات طويلة، فلا بد أن تشفق على نفسك وتمنحها وقتا لتعلم التلاوة الصحيحة.
حاول أن تجعل من مسامعك أذانا صاغية لسماع تلاوة القرآن لقارئ، فالقراء بفضل من الله تعالى قد امتلأت السماء بذكرهم قبل أن يعرفهم أهل الأرض.
استمع لآية آية وكررها بعد سماعها، ومرة وأخرى وبعد ذلك حاول أن تعيدها غيبا حتى إن لم تستطع في البداية، حاول حتى إن تطلب الأمر أن تحفظ كلمة كلمة.
استعن بالله عز وجل واسأله بالدعاء أن يعنيك على ذلك، فهذا فضل من الله تعالى: "فضل اللّه يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم" [الجمعة: 4]، وبذلك يكون أخذك بالأسباب عبادة مع يقينك بأن التوفيق والفلاح هو من الرحمن الرحيم.
وعندما تحفظ آية وبعد ذلك تحفظ آية أخرى، بعد حفظها أعد تسميعها مع ربطها بالآية السابقة وهكذا، ولا تعتمد على التسميع لنفسك، فلا بد أن تسمع ما تحفظه إلى غيرك ممن يجيد التلاوة.
وعند تلاوة ما حفظته في الصلاة فهذا سوف يثبت الحفظ لديك ويجعله أكثر تمكنا.
ولا تقلل من حجم حفظك حتى إن أخذت في اليوم الواحد تحفظ آية واحدة فقط، فالآية الواحدة عظيمة، ففيها أكثر من كلمة، والكلمة فيها أكثر من حرف. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: {الم} حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف".
انهض الآن وتوضأ وأخلص النية لله تعالى، واسأله أن يعينك على حفظه والثبات على ذلك، ولا تحرم نفسك هذا الأجر العظيم، فأنت "تستطيع".
رحم الله قارئا دعا لي ولوالدي بالعفو والمغفرة، "واللّه غالب على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون" [يوسف: 21].
المصادر
- فتح البيان في مقاصد القرآن، لمحمد صديق خان البخاري القنّوجي.
- الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، لمحمد بن إسماعيل البخاري.
- الجامع الصحيح للسنن والمسانيد، لصهيب عبد الجبار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.