شعار قسم مدونات

الشيخ عبد القادر الجيلاني واعظا

انتقد الشيخ عبدالقادر الحاكمين، وحذر الناس من الانصياع لهم بما يخالف الشريعة. (الجزيرة)

بالرغم من اشتغال عبد القادر الجيلاني بالتدريس وإعداد المربين، فإنه لم ينقطع عن مجالس الوعظ العامة التي استهدفت إيصال دعوته إلى عامة الناس، فخصص لذلك 3 أيام في الأسبوع: صباح الجمعة، ومساء الثلاثاء في المدرسة، وصباح الأحد في الرباط (الغنية 2/81/86). ويذكر أن الحضور كانوا يدونون هذه المواعظ، حتى عد في مجلسه مقدار 400 محبرة، وقد جمع قسم كبير من هذه المواعظ -أو المجالس كما كانت تسمى- في كتاب يعرف باسم "الفتح الرباني"، مع تحديد تواريخها وأمكنة إلقائها.

كان الشيخ عبد القادر في مواعظه شديد الحماسة للإسلام، مشفقا لما آلت إليه تعاليمه في حياة الناس، ويود لو استطاع استنفار الخلق جميعا، لنصرة الإسلام. يقول في أحد مجالسه: "دين محمد تتواقع حيطانه، ويتناثر أساسه. هلموا يا أهل الأرض نشيد ما تهدم ونقيم ما وقع. يا شمس ويا قمر ويا نهار، تعالوا" (الفتح الرباني ص295). ويقول في موعظة أخرى: "سبحان من ألقى في قلبي نصح الخلق، وجعله أكبر همي. إني ناصح ولا أريد على ذلك جزاء. آخرتي قد حصلت لي عند ربي عز وجل ما أنا عبد الدنيا ولا الآخرة، ولا سوى الحق عز وجل. فرحي بفلاحكم، وغمي لهلاككم، إذا رأيت وجه مريد صادق قد أفلح على يدي شبعت وارتويت واكتسيت وفرحت، كيف خرج من تحت يدي" (هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص196).

ومن أقواله كذلك: "ألا إني راع لكم، ساق لكم، ناطور لكم ما ترقيت ها هنا، وأرى لكم وجود الضر والنفع، بعد ما قطعت الكل بسيف التوحيد. ألزمت هذا المقام. حمدكم وذمكم وإقبالكم وإدباركم عندي سواء. كم من يذمني كثيرا ثم ينقلب ذمه حمدا، كلاهما من عند الله لا منه، إقبالي عليكم لله، أخذني منكم لله، لو أمكنني دخلت مع كل منكم القبر، وجاوبت عنه منكرا ونكيرا رحمة وشفقة عليكم" (الفتح الرباني نقلا عن هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص197).

بهذا الحماس انطلق الشيخ عبد القادر يستنفر المسلمين إلى الالتفاف حول الإسلام، ويدعوهم إلى العودة إلى تعاليمه وحمل رسالته، وكان يرى أن صلاح دين الفرد لا يتم إلا بإصلاح القلب وفك إساره من حب الدنيا والأخلاق الذميمة، ومن كل ما يشغل عن الله، ومن هنا كثرت في مواعظه دعوة الناس إليه للتربية والتزكية، وكانت مواعظه وخطبه بعضها موجه لنقد العلماء والحكام، والدعوة إلى إنصاف الفقراء والعامة.

انتقاد العلماء

كان الغالبية من العلماء في عهده يتنافسون فيما بينهم على اعتلاء منابر الوعظ والخطابة في الأماكن المشهورة، ويسعون في إيذاء بعضهم بعضا عند الخليفة والوزراء والحكام، ومنهم من عرف بسوء الخلق، ومنهم من اشتغل بالخصومات المذهبية. شاهد الشيخ عبد القادر عن كثب كل ذلك وأمثاله، فشن حملة شديدة على هذا النوع من العلماء، واعتبرهم تجارا يتاجرون بالدين ويساهمون في ارتكاب المحظورات.

ومن مواعظه العامة في ذلك قوله: "يا سلابي الدنيا بطريق الآخرة من أيدي أربابها. يا جهالا بالحق؛ أنتم أحق بالتوبة من هؤلاء العوام، أنتم أحق بالاعتراف بالذنوب من هؤلاء، لا خير عندكم". وقال في موعظة ألقاها في المدرسة في 9 رجب 546 هـ/1151م: "لو كانت عندك ثمرة العلم وبركاته لما سعيت إلى أبواب السلاطين في حظوظ نفسك وشهواتها، والعالم لا رجلين له يسعى بهما إلى أبواب الخلق، والزاهد لا يديْن له يأخذ بهما أموال الناس، والمحب في الله لا عينين له ينظر بهما إلى غيره".

وحذّر عامة الجماهير من حضور مواعظهم والاستماع إلى أحاديثهم، فقال: "يا عباد الله، لا تسمعوا من   هؤلاء الذين يفرحون نفوسكم، يذلون للملوك ويصيرون بين أيديهم كالذر، لا يأمرونهم بأمر ولا ينهونهم عن نهي. إن فعلوا ذلك نفاقا وتكلفا، طهر الله الأرض منهم ومن كل منافق، أو يتوب عليهم ويهديهم إلى بابه، إني أغار إذا سمعت واحدا يقول: الله الله وهو يرى غيره" (الفتح الرباني ص245).

وهاجم المتعصبين للمذاهب، ومن ذلك قوله: "دع عنك الكلام فيما لا يعنيك. اترك التعصب في المذاهب واشتغل بشيء ينفعك في الدنيا والآخرة" (هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص199).

ولم تنقطع حملات عبد القادر على العلماء والفقهاء المنحرفين عن هدي المصلحين والعلماء الربانيين، وكان هجوم الشيخ على العلماء المنحرفين يريد به تصحيح الوضع السائد والمساهمة في تخريج جيل من العلماء الربانيين الذين يقومون بوعظ الناس وهدايتهم وتزكيتهم ونشر التعاليم الصحيحة في أوساط الأمة، حتى يخرج جيل النصر المنشود الذي يتحقق على يديه وعد الله بالنصر للمؤمنين. وقد حالف الشيخ عبد القادر الكثير من النجاح -بحمد الله- في تحقيق هذه المهمة.

انتقاد الحكام

انتقد الشيخ عبدالقادر الحاكمين، وحذر الناس من الانصياع لهم بما يخالف الشريعة. يقول في أحد مجالسه: "صارت الملوك لكثير من الخلق آلهة. قد صارت الدنيا والغنى والعافية والحول والقوة آلهة. ويحكم؛ جعلتم الفرع أصلا، والمرزوق رازقا، والملوك مالكا، والفقير غنيا، والعاجز قويا، والميت حيا. إذا عظّمت جبابرة الدنيا وفراعينها وملوكها وأغنياها، ونسيت الله عز وجل ولم تعظّمه، فحكمك حكم من عبد الأصنام، تصيّر مَن عظّمت صنمك".

وانتقد الولاة والموظفين الذين يجتهدون في تنفيذ أوامر السلاطين دون تحرز. يقول في إحدى مواعظه: "يا غلام.. اخدم الحق عز وجل، ولا تشتغل عنه بخدمة هؤلاء السلاطين الذي لا يضرون ولا ينفعون. إيش يعطونك؟ يعطونك ما لم يقسم لك؟ أو يقدرون أن يقسموا لك شيئا لم يقسمه الحق عز وجل؟ لا شيء مستأنف من عندهم، إن قلت: إن عطاءهم مستأنف من عندهم كفرت".

ولم تتوقف انتقادات عبد القادر للحكام عند المواعظ العامة، وإنما تناولت المواقف الخاصة التي تبرز فيها انحرافات أو مظالم. ففي عام 541هـ/1146م، ولى الخليفة المقتفي يحيى بن سعيد -المعروف بابن المرجم- القضاء، فمضى الأخير في ظلم الرعايا ومصادرة الأموال وأخذ الرشى، فكتبت ضده المنشورات، وألصقت في المساجد والشوارع، دون أن يستطيع أحد أن يجهر بمعارضته. ويذكر سبط ابن الجوزي أن الشيخ عبد القادر اغتنم وجود الخليفة في المسجد، وخاطبه من على المنبر، قائلا: "ولّيت على المسلمين أظلم الظالمين، وما جوابك غدا عند رب العالمين"، فعزل الخليفة القاضي المذكور (مرآة الزمان 8/265).

ولقد تكررت هذه المواقف مع الوزراء والرؤساء والحجاب. وتذكر المصادر التاريخية أن هؤلاء كانوا يستمعون لملاحظات عبد القادر، لاعتقادهم بصلاحه وصدق أغراضه وكراماته (طبقات الحنابلة (1/292). فلقد حرص عبد القادر على أن يبقى بعيدا عن مواطن الشبهات، أو التقرب للحكام، فقد ذكر عنه أنه ما ألمّ بباب حاكم قط (قلائد الجوهر ص19-30).

انتقاده للأخلاق الاجتماعية السلبية

نظر الشيخ عبد القادر إلى المجتمع المعاصر له على أنه مجتمع: الرياء، والنفاق، والظلم، وكثرة الشبهة والحرام. وهذه صفات أحالت كل شيء فيه إلى مظاهر خاوية ولا معنى فيها (هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص203)، يستوي في ذلك المتدينون وغيرهم.

يقول في إحدى مواعظه: "هذا زمان الرياء والنفاق وأخذ الأموال بغير حق. قد كثر من يصلي ويصوم ويحج ويزكي، ويفعل أفعال الخير للخلق لا للخالق، فقد صار معظم الناس بلا خالق. كلكم موتى القلوب أحياء النفوس والأهوية طالبو الدنيا".

وقال في إحدى المواعظ: "ملائكتكم تتعجب من وقاحتكم، تتعجب من كثرة كذبكم في أحوالكم، تتعجب من كذبكم في توحيدكم، كل حديثكم في الغلاء والرخص، وأحوال السلاطين والأغنياء، أكل فلان، واستغنى فلان، افتقر فلان، كل هذا هوس ومقت وعقوبة. توبوا واتركوا ذنوبكم وارجعوا إلى ربكم دون غيره، اذكروه وانسوا غيره".

الدعوة لإنصاف الفقراء والعامة

ركّز الشيخ عبد القادر على نصرة الطبقة العامة، والفقراء خاصة، فجعل الاهتمام بشؤونهم من الإيمان، وشن حملة شديدة على الولاة الذين يظلمونهم، وعلى الأغنياء الذين يخصون أنفسهم دون إخوانهم من الفقراء، بأطيب الأطعمة وأحسن الكسوة وأطيب المنازل وأحسن الوجوه وكثرة الأموال، فأفتى بأن انتسابهم للإسلام دعوى كاذبة، وذريعة لحقن دمائهم بالشهادتين.

ولقد جعل عدم التفرقة بين الغني والفقير من شروط تقدم المريد في مقامات التزكية، أو نجاة المسلم من عقاب الله. وشدد في وصيته المشهورة لولده عبد الرزاق على خدمة الفقراء، وحسن صحبتهم والتعامل معهم: "حسبك من الدنيا شيئان: صحبة فقير وحرمة ولي. وعليك يا ولدي أن تصحب الأغنياء بالتعزز، والفقراء بالتذلل".

ولم يقف اهتمام الشيخ عبد القادر بالفقراء عند حد الوعظ، وإنما ترجمه لعمل واقع، فكان يفتح بابه للفقراء    والغرباء، ويقدم لهم المنام والغذاء، ويحضرون الدرس ويعطيهم ما يحتاجون. كان يرى هذا الأسلوب من أفضل الأعمال، فلقد نقل عنه قوله: "فتشت الأعمال  كلها، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، ولا أشرف من الخلق الحسن. أود لو كانت الدنيا بيدي أطعمها الجائع. كفي مثقوبة لا تضبط شيئا، لو جاءني ألف دينار لم يبت عندي".

لهذا كله، أقبلت العامة والفقراء على عبد القادر إقبالا شديدا وتحمسوا له، وتابت على يديه أعداد كبيرة من أهل بغداد، فقد روي عنه قوله: "وتاب على يدي من العيارين والمسالحة أكثر من 100 ألف، وهذا خير كثير".

 

المصدر

د. علي محمد الصلابي، كتاب عبد القادر الجيلاني، ص 55-58.