كُردستان هي وطن الكُرد منذ آلاف السنين، غير أن التسميات اختلفت باختلاف العصور والدول وهذا أمر معهود قديماً وحديثاً، فكم من شعوب ومناطق ودول عرفت باسم ثم باتت تعرف باسم آخر.
مر فيما سبق أنه في عهد الانتشار الآري هاجرت بعض القبائل الآرية المتقاربة الأصل على دفعات متلاحقة من وسط آسيا، بدءا من الألف الثالث قبل الميلاد، واستقرت في غرب الهضبة الآريانية وجنوبها الغربي (جبال زاغروس)، ثم انتشرت غربا أكثر، وقد ظهرت أخبارها في أزمنة متواكبة تارة ومتلاحقة أحيانا أخرى، وكان ذلك مرهونا بالمرحلة التاريخية التي كان يلمع فيها اسم كل فرع سياسيا، فتشير إليه المدونات السومرية أو الأكادية أو البابلية أوالآشورية أو الحيثية أو المصرية .
وقد تمازجت تلك القبائل والفروع عبر القرون في المنطقة التي عرفت لاحقا باسم کردستان، ثم توحدت سياسيا وحضاريا تحت راية الفروع البارزة التي أسست دولا قوية؛ مثل الكوتیین والكوريين (الميتانيين) والثديين (أوراژتو)، وبرزت الدولة الميدية أخيرا في القرن الثامن ق.م، فبسطت سلطانها على جميع البلاد التي سكنها أحفاد تلك الفروع، وأنشأت تكوينا إثنولوجيا وحضاريا متجانسا، والشعب الكردي هو خلاصة ذلك التكوين الإثنولوجي الحضاري.
وأبرز فروع أسلاف الكُرد هي كما يلي :
فرع لوللو Lulu
يسمى هذا الفرع لوللوبي ولوللومي أيضا، وهو شعب زاغروسي جبلي، وتفيد لوحة أثرية مسمارية يرجع تأريخها إلى 2800 ق.م أن منطقة هالمان (حلوان = هورامان = زهاو) كانت خاضعة لشعب لوللو، وهذا يعني أنهم كانوا يقيمون قرب طريق الحرير التجاري المؤدي من بلاد ما بين النهرين إلى قلب إيران عبر كرمنشاه وهمذان (أكباتانا).
وازداد شأن قوم لوللو ارتفاعاً في عصر سلالة أور الثالثة قبل الميلاد وأصبح اسمهم يدل على كل القبائل الجبلية هناك في العصر البابلي القديم 1900 ق.م ، وفي القرن الثامن ق.م طغت تسمية زاموا على مناطق لوللوبي، ومن ملوك لوللو ملك يدعى لاسيراب، وكان معاصراً للملك الآكادي سرجون الأول (حكم حوالي 2350 ق.م) وترك ملك آخر يسمى تار-لوني نصبا في منطقة سرى بولي في هورین شیخان، وهذا النصب يضاهي منحوتات الملك الآكادي نارام سین (حكم بين 2151-2115 ق.م)، ودخل شعب لوللو في حروب ضد الآشوريين 4 مرات في الفترة بين (884-880 ق. م)، وكانت مدينة زيمري عاصمة لوللو آنذاك.
فرع غوتي Gutti
هذا الفرع هو من أقوام زاغروس الكبرى، ويعتقد الباحثون أنه الأصل الأول للأمة الكردية الحالية، وقد استقر في الجهات الجبلية الشرقية من نهر الزاب الصغير الأسفل، وامتد موطنهم حتى منطقة زهاو (حلوان)، وكان له فيها مملكة مستقلة، وعلى يد الغوتیین سقطت مملكة آكاد بعد انتهاء فترة آخر ملوكها البارزين شركلي شري الذي بدأ حكمه سنة 2114 ق.م، ومن أوائل ملوك الغوتیین آناتوم الذي حارب العيلاميين، وكان ملكا على لاغاش في القرن الـ21 ق. م.
ويذكر أرشاك سافر استيان أن مملكة غوتيوم كانت في القرن الـ24 قبل الميلاد، وحدد الأستاذ عبد الرقیب یوسف تاريخ الدولة الغوتية بين سنتي 2210-2116 ق.م، ويتطابق موقع تلك المملكة اليوم مع جنوبي إقليم كردستان العراق، ويمتد إلى منطقة بوتان شرقا، وكانت عاصمتها في کرکوك أو قربها، وتدعى أرابخا Arrabkha، وقد فرض أحد ملوك غوتيوم -ربما يدعى أمبيا Ambia- سلطته على بابل، ودمر مملكة آكاد التي كانت قد هيمنت فيما سبق على سومر.
وأفاد الأستاذ عبد الرقيب يوسف أن إطلاق اسم غوتي توسع في الألف الأول قبل الميلاد حتى شمل بلاد ميديا وبلاد مانناي (جنوب بحر قزوين)، والأرجح أن اسم جبل جودي قرب جزيرة بوتان (جزيرة ابن عمر) منحدر من اسم فرع غوتي، وأن منطقة بوتان كانت جزءا من بلادهم، وكذلك منطقة كيموخي (طور عابدين)، وحكمت الدولة الغوتية بلاد ما بين النهرين حوالي 91 عاما، وفي رواية 120 عاما، ومنحت الحكم الذاتي للآكاديين والسومريين، وهذه أقدم صيغة للحكم الذاتي في تاريخ غرب آسيا.
يقول الملك الآشوري شلما نصّر الأول (1263-1234 ق.م) "إن الشعب الغوتي الذي كان في سماء هذا العصر يتألق كالنجوم الزاهرة، لم يكن متصفا بالقوة والسلطان فقط، بل كان معروفا بالحزم والعزم والشدة المتناهية والتدمير، فقد قاوم هذا الشعب بكل شدة وبأس إرادتي، وأصر على عدائي دائما".
وتغلب الآشوريون على قوم غوتي في النهاية بعد كثير من الأموال وإراقة الدماء، ويقول شلما نصّر الأول نفسه في هذا الصدد "إن دماء الشعب الغوتي أريقت کالمياه الجارية في منطقة كبيرة تمتد من حدود أوراتري حتی کیموخي".
فرع كاشّو Kashshu
قوم کاشو Kashish يسمی کاساي، كما يسمی کاسیت Kasites أيضا، وجاء اسمه من اسم إلهه الجبلي کاشو، ومن أسماء آلهة الكاشيين الآرية: دنیاش وسوریاش وبوریاش، واتخذ الكاشيون رموزا للآلهة، وتجنبوا صنع التماثيل لهم، واتخذوا الصليب رمزا لإله الشمس، ومعروف أن الصليب كان رمزا للإله میترا (میثرا/ مهر) إله السماء، وإله العدل والمساواة، وإله الحرب الذي تتبعه الشمس، وأدخل الكاشيون إلى بلاد ما بين النهرين عناصر حضارية جديدة وأحدثوا لها اسما جغرافيا جديدا هو كاردونياش؛ أي بلاد الإله دونیاش، وهم الذين أدخلوا إليها الخيل، وليس مستبعدا أن يكون الاسم کُرد، علاقة ما باسم کاردونیاش.
وقد استوطن الكاشيون الجزء الأوسط من سلسلة جبال زاغروس، وكانوا يغيرون على بلاد بابل، فهاجمهم البابليون وألحقوا الدمار ببلادهم، لكن الكاشيين تعاونوا مع الغوتيين واللوللو، وهاجموا بلاد بابل واستولوا عليها حوالي سنة 1760 ق.م، ثم هاجموا بلاد سومر وسيطروا عليها، وظلوا يحكمون بابل وسومر قرابة 6 قرون، إلى سنة 1171 ق.م تقريبا، وظل هذا الفرع معروفا بهذا الاسم إلى ما بعد الميلاد في لورستان (جنوب غرب إيران)، ثم زال هذا الاسم وحل محله اسم العشائر اللورية.
يقول أرشاك سافراستيان بشأن قوم كاشو "لقد بدأوا غزو بابل وكانوا قبيلة كبيرة أو اتحاد قبائل، وكانت تعيش في جبال زاغروس شرقي بابل، وربما شمالي أرض عیلام مباشرة، وتختلف آراء الباحثين فيما يتعلق بهويتهم، ويبدو أنهم كانوا نفس الشعوب والقبائل الكردية في لورستان بجنوب شرقي بلاد فارس في سلسلة زاغروس، وأن اسمهم کاشو Kashisha الوارد في الكتابة المسمارية ربما يكون باقيا في إقليم خوزستان Ahnetstan الفارسي، إنهم كانوا من الشعوب الهندوأوروبية جغرافيا، وهم مماثلون لشعب غوتيوم إثنولوجيا".
ويضيف سافراستيان قائلا "وإن ملكا كاشيا آخر، هو أغوم الثاني سمي نفسه ملك أرض غوتي، بالإضافة إلى بلدان أخرى، وهذا أن مملكة الكاشيين قد أخضعت مملكة غوتیوم القديمة، وهذا ما كان يحدث مرارا خلال التاريخ الطويل الكردي، أن قبيلة عظيمة كانت تحكم القبائل الأخرى كلما سنحت الفرصة وتفرض سيادتها على كل الشعب.
فرع حوري Huri – ميتاني Mittanni
إن اللفظ الصحيح لاسم حوري هو خورّي، لكن شاع في الدراسات العربية استعمال صيغة حوري ولصيغة خورّي صلة بكلمة خُرَدي، وتعني الجندي اليقظ، والحوريون من شعوب الشرق القديم، وقد ورد اسمهم في العهد القديم بصيغة حوريم وحوييم، وثمة تداخل بين سوبارتي وحوري وميتاني، ويرى الباحث الأميركي غلب Gelb أن الحوريين هم الأحفاد المتأخرون للسوباريين، ومهما يكن فإن التداخل بين فروع أسلاف الكرد أمر معهود، وكان الشعب يكتسب اسمه كل مرة من اسم الفرع المسيطر.
ويفهم من الباحث الألماني غزنوت فيلهلم أن الميتانيين فرع من الحوريين، فساد الحوريون أولا، ثم تلاهم الميتانيون وكانت شهرتهم هي الأوسع انتشارا، ولعل لاسم حوري دلالة ثقافية، ولاسم میتاني دلالة سياسية. وقد ظهر الحوريون خلال الألف الثالث ق.م، في البلاد الواقعة بين منعطف نهر الفرات والمجرى العلوي لنهر دجلة، وكان مرکزهم منطقة مثلث ينابيع الخابور، أما الحدود الشمالية لهم فلم تكن واضحة المعالم، ويرجح أنها كانت تشتمل على مناطق طور عابدين والسهل المحيط بمدينة ديار بكر (آمد).
وقد خضع الحوريون في البداية للتأثيرات السومرية والآكادية على أن دورهم الحضاري برز في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، فأسسوا مملكة ميتاني القوية حوالي سنة 1450 ق.م وكانت عاصمتها وشّوكاني (أُشّوكاني-سيكاني) وشمل نفوذ الميتانيين جميع مناطق کردستان وشمال سوريا بما فيه حلب، وأمتد خلال القرن الـ14 ق.م إلى المناطق السورية الوسطى، فوصل إلى قادش (تل النبي مَنْد) على نهر العاصي في منطقة حمص، والخلاصة أن نفوذهم امتد من أرّابخا (کرکوك) شرقا إلى البحر المتوسط غربا
وحينذاك كان ما يسمى الآن بمنطقة الشرق الأوسط ساحة تنافس بين 3 قوى إقليمية، هي مملكة ميتاني والدولة الحِثّية والدولة المصرية، وكانت العلاقة بين الميتانيين والحثيين علاقة صراع على الدوام، كما اشتبك الميتانيون مع المصريين في الحر،ب لكن انتهى الأمر بين الطرفين إلى الصلح وتقاسما سوريا فيما بينهما وتحالفا معا لدفع الخطر الحثي.
وقامت علاقات مصاهرة بين الأسرتين الملكيتين في ميتانيا ومصر خلال عهود الملوك الميتانيين أرتاتاما الأول وشوتّارنا وتوشراتّا، ومن الأميرات الميتانيات اللواتي وصلن إلى مصر أميرة تدعى غيلو- خِبا، تزوجها الفرعون تُحوتمُس الرابع (حکم بین 1410-1390 ق.م) فأنجبت الفرعون آمونحوتب الثالث الذي يسميه الإغريق أمنوفس الثالث (حكم على الغالب بين 1390-1352 ق.م) وتزوج هذا الفرعون بأميرة ميتاني اسمها تتو-خبا (تادو – خپا)، ويبدو أن الفرعون آمونحوتب الرابع (أخناتون حکم بین 1352- 1336 ق.م) تزوج أيضا أميرة ميتانية دعی تتو- خبا (تادو- خپا)، وهي التي اشتهرت بلقب نفرتيتي، وقد ضعفت العلاقات الميتانية المصرية في عهد هذا الفرعون بسبب انشغاله بالمشکلات الداخلية الخطيرة التي نجمت عن قيامه بإلغاء ديانة الإله آمون، وإحلال ديانة الإله آتون الشمسانية محلها.
فرع سُوباري Subari
كان هذا الاسم في عهد الآكاديين في الأصل يدل على منطقة جغرافية تمتد من عیلام شرقا إلى جبال أمانوس غربا، ثم صارت علما لقبائل كبيرة في كردستان كانت قد انفصلت عن الأقوام الأصلية القديمة المعروفة بأقوام زاغروس، وذكر مهرداد إيزادي أن قبيلة زيباري المقيمة حاليا في كردستان الجنوبية تمت بصلة نسب إلى فرع سوباري، وأن سوباري اسم أطلقه السومريون على الغوتیین. وتذكر الروايات التاريخية أحداث حروب الآشوريين ضد قوم سوباري ولا سيما في عهد الملك الآشوري تيجلات بلاسّر الأول (1114-1076 ق.م) وتلاشی اسم السوباريين في عهد الحكومات الآشورية، وحل محله شعب اسمه نايري.
فرع خلدي ( نايري Naiyri )
مر بنا أن هذا الشعب حل محل شعب سوباري، وكان شعب خلدي (نايري) على جانب كبير من القوة والشجاعة، فاستطاع أن يتمثل جميع أقوام كُردستان ويدمجها في كيان واحد، وخاض حروباً طاحنة ضد الآشوريين، واضطر الملك الآشوري تيجلات بلاسّر الأول إلى محاربة جيوش 23 ملكاً من ملوك خلدي في هضبة مَلاذكرد وانتصر عليهم وأقام نصباً عند منابع نهر دجلة سجل عليه انتصاره، والأرجح أن عشيرة نَهري الكبيرة في كُردستان الوسطى ومنها الشيخ عبيد الله النهري قائد الثورة الكُردية سنة 1880م هي من هذا الفرع.
تأسست حكومة خلدي (أورارتو) في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، ومن ملوكهم ساردوريس الأول، وكان معاصراً للملك الآشوري شلمانصّر الثالث (858-824 ق.م) وهو الذي بنى مدينة ترسباس (وان) وبلغ نفوذ الخلديين أقصى قوته في عهد الملك ميثواس، وخاض هذا الملك حروباً كثيرة ضد الآشوريين في عهد شلمانصّر (782-772 ق.م).
وكان عهد ابن ميثواس وخلفه ساردوريس الثاني العصر الذهبي للخلديين وبلغت المملكة الخلدية بحيرة أورميا شرقاً والقفقاس شمالاً والفرات غرباً، وظل الحكم الخلدي قائماً حتى قضت عليه ثورات العشائر الكوت سنة (585 ق.م)، ومن الباحثين من يرى أن الخلديين هم أجداد الأرمن، لكن غرنوت فيلهيلم ذكر أن الأجزاء الجنوبية الشرقية من مناطق القفقاس، حيث استقر قوم خلدي كانت موطناً للحوريين قبل انتقالهم إلى بلاد الهلال الخصيب، كما ذكر وجود التشابه بين لغة شعب حوري وشعب خلدي، وتوصل إلى أن اللغتين ترجعان إلى أصل لغوي واحد.
ونحسب أن استقرار الأرمن في أجزاء من بلاد قوم خلدي أوهم بعض الباحثين أن الأرمن من أحفاد خلدي، وقد وقع في هذا الخطأ بعض مؤرخي غرب آسيا في العصر الحديث، ومثال ذلك أن بعض ساسة ومثقفي عرب العراق حالياً يعدّون أنفسهم من أحفاد سومر وورثته، ومعروف أن السومريين أقرب إلى الشعوب الآرية عرقاً ولغةً وثقافة، ولا علاقة لهم بالعرب لا من قريب ولا من بعيد، وكل ما في الأمر أن الشعوب السامية (أكّاديون، بابليون، عرب) استقروا على التوالي في جنوب بلاد ما بين النهرين وتناوبوا على حكمها، وعلى أية حال فالدراسات الموضوعية الجادة كفيلة بحل هذه الإشكالات.
المصادر
- كتاب خلاصة تاريخ الكُرد وكُردستان
- كتاب تاريخ إيران القديم
- كتاب الحضارات السامية القديمة
- كتاب تاريخ الشرق الأدنى القديم
- كتاب تاريخ الكُرد في العهود الإسلامية
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.