شعار قسم مدونات

الإحساس نعمة

أن تميل بك الدنيا حتى يبدو لك ضوء الشمس شاحبا وأن تفقد كل إحساس يربطك بالوجود وكل أمل في العودة إلى موطنك الداخلي ثم يحدث شيء بسيط يعيدك للحياة (مواقع التواصل الاجتماعي)

عندما تلتقي الأم بابنها البطل بعد عودته من معسكر حربي.. عندما ترى وفاء كلب لصاحبه حتى بعد وفاته.. عندما تتمعن في رؤية مقلتي أب في ليلة زفاف ابنته.. عندما ترى بهيمة تعانق مولودها المغلف دما وترابا بعد ولادة عسيرة.. عندما تتأمل في ملكوت الله عز وجل ويخالج صدرك إيمان بعظمته وقدرته فذاك هو الإحساس.

الإحساس هو جزء من اللاوجود وإدراك للاإدراك ووعي باللامحسوس، هو ذلك الجمال الذي لا نستطيع أن نصفه، ذلك التوقف المفاجئ عن السرد لحظة عجز الكلمات عن التعبير.. هو بحث جار لا متناه وعقيم عن تجليات ملموسة لعواطف محسوسة..

لكل شيء وعاء؛ فالماء وعاؤه البحر والأنهار والهواء وعاؤه الفضاء والسماء والتراب وعاؤه الأرض بطبقاتها المتراصة، بيد أنه ليس للإحساس وعاء إذ تعجز عن احتوائه الكلمات ولا تفيه الأفعال حقه.. قد تنصفه قليلا لغة العيون إذا ما كان المتكلم عازفا ماهرا على أوتار الإحساس.

وبعيدا عن الاكتشافات والاختراعات التي غيرت حياة البشرية ولكنها مع الأسف أنْستها معنى الإنسانية وضرورة العودة للذات، لم يعد هناك من يهتم باكتشاف أحاسيس جديدة؛ كأن تشارك في حفر بئر لقرية منسية وتنتظر بشغف وترقب وصبر وتفاؤل لحظة انفجار الماء وتركض في اتجاهه للمسه والتبلل بقطراته الأولى الممزوجة بالتراب والاستمتاع برؤية بريق الأمل والخلاص في أوجه المترقبين.

وهل جربتم يوما أن تتعرفوا على أنفسكم؟ أن تحبوا كل تفاصيل جسدكم كيفما كان.. أن تتحدّوا المرآة بنظرة نرجسية وصرخة تصالح وجمال.. أن تحاوروا تلك الروح التي تحيا في دواخلكم.. أن تسألوها عن احتياجاتها ورغباتها وسرّ أنينها في بعض الأيام وعودتها للعزف على أنشودة الحياة بحب وثبات.. من المؤكد أنه إحساس رائع!

أن ترسم البسمة على تقاسيم وجه أب قسا عليه الزمان، أن تمدّ إليه يد العون ليلمّ شتات أسرته بعدما طرده مالك البيت.. أن يأخذ منك المساعدة بأيد خشنة مرتعشة وأعين دامعة لا تدري إلى أين تفرّ ولسان يتمتم دعوات صادقة تفتح لك أبواب الجنان قبل موعد الوفاة.. فذلك أيضا أروع إحساس.

أن تميل بك الدنيا حتى يبدو لك ضوء الشمس شاحبا، أن تفقد كل إحساس يربطك بالوجود وكل أمل في العودة إلى موطنك الداخلي، ثم يحدث شيء بسيط يعيدك للحياة كابتسامة طفل لا أسنان تلوثها.. أو ضمّة صديق عوّضك عن ألف قريب.. أو ملاقاة جدتك التي غابت عنك ولم تغرد طيور قلبك إلا بعد استشعار رائحة جسدها الدافئة والتلذذ بسماع رقص الدمالج في ساعديها اللذين لم تزدهما التجاعيد والبقع السمراء إلا جمالا يؤرّخ بكل فخر لماض جميل، سيظل أبد الدهر راسخا في النفوس وفي العقول.

هل جربتم كل هذا أم ما زلتم حبيسي الإحساس بالحب بين رجل وامرأة؟! هل جربتم الإحساس بالحب بين الأم وابنتها أم إنه عن حب الأنثى للأنثى قل الكلام؟! هل لامستم يوما ذلك التآلف بين روحيهما والتزامن بين ضحكاتهما والحنين إلى لحظة لقاء جديد بعد بضع ساعات من الذهاب إلى المدرسة؟! هو حب أبدي يبدأ وينتهي بصرخة وآهات ولمسات..

عندما نريد أن نستشعر أحاسيس معينة غالبا ما نميل إلى إغماض أعيننا والاكتفاء بنور الإحساس الذي ينير ذلك الظلام.. هو إذن ظلام في ظلام، يليه نور يدرك الأرواح والأبصار وذاك ما نجسده في تنهيدة ننهي بها عودتنا إلى واقع ترك الإحساس نائما بين فجوات القبور المنسية، إلا أن الأعين غالبا ما تفيض دمعا من هول الإحساس، فهو يتجاوز حدود رموشها وجفونها، وقد يمتد كذلك إلى عضلة اللسان فيربكه أو يبكمه أو يحثك على الجري أو القفز أو الصراخ حدّ الجنون.. حدّ الوثوق بأنك احتويته لكن هيهات هيهات.

والواقع أن الهوية الحقيقية للإنسان هي إحساسه وليست اسمه ونسبه وألقابه وبطاقاته؛ وعلى أولئك الذين لا يعرفون للإحساس طريقا الإسراع في العودة إلى ذواتهم المنهكة من نمط الحياة السريع الذي لم يتبلل بعد بقطرات الحب والود والاشتياق والحنين.. وعوض أن نلخص أيامنا في محاصيل واهية وأسئلة بليدة متكررة وجب علينا أن نتساءل يوميا: كيف حالك مع نفسك اليوم؟ هل جربت أحاسيس جديدة؟ هل اقشعرّ جلدك برؤية قمر متوهج أو شلال متدفق أو قطة تهرب بصغارها من خطر محدق؟ هل حددت قائمة الأحاسيس التي تنوي أن تطعم بها روحك في القادم من الأيام، أم إنك ستمضي مهرولا بين سراديب الحياة وكل همك الاستهلاك والهلاك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.