لم تعد الفلسفة الفرنسية في الفترة الراهنة بتلك الصرامة المعهودة، ويرجع ذلك إلى أمرين؛ الأول انتهاء الأنساق الفلسفية الكبرى، والثاني انكباب الفلاسفة على اليومي والعادي. لنقل بعبارة أخرى إن السبب هو غياب البعد "النسقي" و"الطموح الميتافيزيقي"؛ لذلك أصبح من الطبيعي أن نجد متفلسفا يوصف بصفات معرفية متعددة ومتفاوتة. من هنا نفهم الاستفسار المستمر عن التوصيف المعرفي للمفكر الفرنسي لوك فيري، والنقاش في إنتاجه، وإنتاج من يسمون "الفلاسفة الجدد" عموما.
ولد لوك فيري سنة 1951، وهو الأخ الأصغر للمفكر الفرنسي البلجيكي جان مارك فيري. عاش لوك طفولته في الريف، حيث تلقى تعليما عائليا خاصا، ثم درس في ألمانيا وفرنسا. وبعد تخرجه في منتصف السبعينيات أصبح مدرسا، وكانت له قدرات تعليمية وتواصلية لافتة، ظهرت بشكل أكبر عندما أصبح يكتب مقالا أسبوعيا، وضيفا -شبه دائم- للتلفزيون. تنقل فيري بين جامعات فرنسية عديدة، ودرّس مواد مختلفة. وشغل إلى جانب التدريس وظائفَ عديدة، منها رئاسة المجلس الوطني للبرامج في وزارة التعليم بفرنسا، من 1994 إلى أن أصبح وزيرا للتربية سنة 2002.
بدأ فيري إنتاجه الفكري أواسط الثمانينيات، ولعل أول أعماله المهمة كتابه عن "الفلسفة السياسية" الصادر 1984 في 3 أجزاء؛ لكن شهرته الحقيقة جاءت بعد صدور عمله المشترك مع آلان رونو "فكر 1968" سنة 1985، حيث مثَّل هجوما مباشرا على فلاسفة جيل الستينيات والسبعينيات. وتكرست شهرة فيري بعد صدور كتابه "النظام الإيكولوجي الجديد"، الذي ترجم إلى أزيد من 15 لغة، بعد حصوله على "جائزة ميديسيس" (Médicis essai) سنة 1992. ومن أهم كتب لوك فيري التي ترجمت إلى العربية "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة"، "تعلم الحياة"، "الإنسان المؤلّه"، "مفارقات السعادة"، "مولد الإستطيقا". وإذا أردنا أن نفهم ما يكتبه لوك فيري، وأن نُدرك منزلته في الفكر الفرنسي الراهن، فإن ذلك يستدعي منا أن نجعل الفلسفة الفرنسية المعاصرة كلها -بعد بداية النصف الثاني من القرن 20- محل نظر، خاصة ما يعرف بالفلاسفة الجدد.
يتحدث باديو في نص له حول الفلسفة الفرنسية المعاصرة عما أسماه "اللحظة الفلسفية الفرنسية"، وهي ما بين 1943 (سنة صدور كتاب سارتر "الوجود والعدم")، ونهايات القرن 20، (ما بعد صدور كتاب جيل دولوز "ماهي الفلسفة؟"). حيث يقول "وما بين سارتر ودولوز يمكن ذكر باشلار وميرلو بونتي وليفي شتراوس وألتوسير وفوكو ودريدا ولاكان وأنا أيضا". يقسم باديو الفلسفة الفرنسية المعاصرة إلى تيارين متباينين:
الأول "يمكن تسميته فلسفة الجوّانية الحيوية"، ظهر في بداية القرن 20 مع برغسون، واكتمل مع دولوز نهاية القرن الماضي. والثاني يقوم على "فلسفة للمفهوم مستندة إلى الرياضيات"، بدأ مع برونشفيك، وبقي طيلة القرن 20، خاصة مع ألتوسير ولاكان.
وهذا يعني أن باديو لا يرى الفلسفة الفرنسية المعاصرة إلا من خلال الأسماء العشرة المذكورة، وأما البقية فهي تبع أو هوامش. ومسايرة لما قرره باديو، نستطيع أن نقول بعد موت بول ريكور 2005، إنه لم يعد في فرنسا فيلسوف يقر الجميع بتقدمه. وأعتقد أن ما يمكن أن نطلق عليه الفلسفة الفرنسية المعاصرة، قد انتهت مع موت ريكور. وبدأت الفلسفة الفرنسية الراهنة، ويتصدرها -شهرة في فرنسا- من يعرفون بالفلاسفة الجدد، الذين تجاهلهم باديو تماما في نصه المذكور. وبدأت ملامح مجموعة الفلاسفة الجدد تتشكل مع سبعينيات القرن الماضي. وعن نشأة هذا التيار يقول هنري ليفي -وهو أحد أشهر رموز الفلسفة الجديدة- إن هذه الفلسفة "ولدت من خلال المقالات الصحفية، التي ظهرت بعد ذلك في كتب أو كتيبات صغيرة، في محاولة لتأصيل الظاهرة.. بعد أن اتفق الجميع -أقصد الفلاسفة الجدد- على نظرية واحدة رغم اختلافاتهم الجوهرية فيما عدا هذه النظرية، نظرية فشل الفلسفة المادية فيما نادت به عند التطبيق". ومن أهم رواد الاتجاه الجديد برنار هنري ليفي، وأندريه غلوكسمان، وجييه لاردرو، وجيل سوسونغ، وكريستيان جامبيه أندري، وجان بول دوليه، وآندري كونت سبونفيل، وبسكال بروكنر. ويتفق الفلاسفة الجدد -رغم اختلاف مشاربهم- على:
- تحطيم أعلام الفلسفة اليسارية ورموز الفلسفات البنيوية والتفكيكية.
- الدعوة للعودة إلى الفلسفة الديكارتية والكانطية وقيم فكر الأنوار.
- تبسيط الفلسفة وإخراجها من ضيق الخصوصية إلى سعة العمومية.
- توظيف الإعلام للتواصل ومخاطبة أكبر قدر ممكن من الجمهور.
وعندما نتحدث عن الفلاسفة الجدد، فلسنا نقصد أنهم يشكلون اتجاها منسجما تماما، يتفق أفراده على مجموعة من القواعد المضبوطة الواضحة؛ بل على العكس من ذلك قد لا تجمعهم إلا الغاية المشتركة، وهي تحطيم أعلام ما أسماها باديو "اللحظة الفلسفية الفرنسية"، يقول هنري ليفي إنهم "رفضوا وأنكروا أغلب الفلاسفة القدامى والمحدثين أيضا.. ولكن الفلاسفة الجدد -وأنا أحدهم- لم ينشِئوا مدرسة، ولم يكونوا جماعة، ولم يحددوا اتجاها في المقابل".
يصنف لوك فيري ضمن "الفلاسفة الجدد"، رغم أنه كتب العديد من الأعمال المشتركة؛ إلا أنه حاول دائما أن يجد لنفسه خصوصية ما، بل إن فيري حاول أن يحدد لنا مكانه في تاريخ الفلسفة الحداثية. فهو يفترض "وجود 3 عصور للحداثة.
- عصر تأسيس الأنساق الكبرى، التي حاولت منافسة الأديان في حدود العقل.
- عصر التفكيك، الذي يعلن موت الإله ونهاية الفلسفة كمشروع ميتافيزيقي.
- العصر الذي نعيش فيه، والذي يبقى من مهمتنا تحديده".
وواجب الفلاسفة في هذا العصر الأخير -عصر لوك فيري- هو:
تحديد المهام النظرية والعملية للفلسفة المعاصرة.
فلم يعد إنتاج أنساق كبرى مطلوبا اليوم؛ بل إن أي متفلسف يقارن كتاباته بكبار الفلاسفة، من مثل أفلاطون، ديكارت، سبينوزا، كانط، هيغل، "يعرض نفسه للتهكم". والناظر في الإنتاج الفكري للوك فيري يمكن أن يفترض له 4 مشاغل كبرى:
- نقد عصر التفكيك، وأهم رموز فلسفة اليسار الفرنسية، وعلى رأسهم سارتر، ألتوسير، شتراوس، لاكاه، ميشال فوكو، جيل دولوز، جاك دريدا.
- الدفاع عن النزعة الإنسانية وقيم فكر الأنوار، بالعودة إلى كانط وكبار الفلاسفة الألمان، والاستفادة من بعض المعاصرين مثل هابرماس.
- التنظير لخلاص دنيوي، غايته استعادة الروحانيات بدون اللجوء إلى الدين؛ بل بالانخراط في الفلسفة كوسيلة لتعلم الحياة والتغلب على المخاوف.
- تبسيط الفلسفة وإعادة كتابة تاريخها، لتكون متاحة للجميع؛ لأنها هي الطريق إلى الخلاص العلماني، مقابل الخلاص الديني.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.