شعار قسم مدونات

هل باع الفلسطيني أرضه؟

 

من نكد الدنيا على المرء، أو عليّ كما أشعر وأحس، هو الاضطرار إلى مناقشة بدهيات، أو إعادة التأكيد على مسلّمات، وصرف الوقت في إثبات ما هو مثبت ومقطوع به أصلا.

ذلك أن مدرّس طلبة مرحلة متقدمة ليس مضطرا إلى إعادة شرح الأبجديات أو الألفباءات، باعتبار أن الطلبة لديه قد وصلوا إلى مرحلة صارت هذه الأمور عندهم مستوعبة ومفهومة، ولا تحتاج شرحا أو توضيحا، ولا يسأل ولا يُسأل عنها؛ تماما مثل المهارات الأولية العادية في حياة إنسان تجاوز مرحلة الطفولة الأولى؛ فالطفل الصغير مثلا، يعلمه أهله أو من يقوم على تنشئته مهارات تجميع الحروف لتكوين الكلمات، وترتيب الكلمات كي تصبح جملا مفيدة، حتى يستطيع التعبير عن نفسه بعد سنوات، دون الحاجة إلى تعليمه تركيب كلمات أو جمل مثل حاله وهو صغير، وغير ذلك من أمثلة في حياتنا اليومية.

ولكن يبدو أن الله -سبحانه وتعالى- كتب علينا أن نحيا في زمن ضرورة مناقشة المسلّمات وإعادة التأكيد على البدهيات، وما كنت أحسب أن أحيا إلى زمن أضطر فيه إلى شرح ما حسبته لا يحتاج شرحا، وإلى مناقشة ما لا يحتاج نقاشا عقلا وعرفا .. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إن حالة التفاهة والسطحية الطاغية التي صبغت المرحلة وأتاحت لأرباب الجهل أو التجهيل المبرمج اعتلاء منابر الإعلام والتعليم لها دور بارز في وصولنا إلى هذه المشكلة بل إلى هذه المرحلة الكارثية.

ومن تمظهرات هذه الحالة وضع الفلسطيني الذي هو بديهة صاحب حق أبلج، وقع عليه ظلم لا يتجزأ ولا يتقاسمه مع الظالم، في موضع إثبات هذه المسلّمة في ظل طوفان الهجوم عليه، وقد تبين له أن قطاعا لا يستهان به، يميل فعلا إلى تصديق الافتراءات والأكاذيب الصغيرة والكبيرة، حول حقوقه المشروعة، بحيث ينظر إليه شقيقه -كما يفترض- العربي نظرة متشككة ويضعه في قفص الاتهام، بل يصل الغلو أن يلوم العربي المقتول على ما قتله بسيف الظالم، بل يُمدح الظالم بلسان عربي دون حياء أو وازع من أخوة في الدّين أو العرق، أو أخلاق وعادات عربية وجدت حتى أيام الجاهلية الأولى.

 

الفلسطيني يتهم ببيع أرضه! 

ومن ذلك اتهام الفلسطيني بلا خجل، بأنه باع أرضه إلى الحركة الصهيونية، وصار يطالب المشتري بحقه فيما باعه وقبض ثمنه؛ وقد حسبت في مرحلة سابقة أن هؤلاء قلة بائسة مضللة تعيش في ظلمة الجهل، ويضاف لهم موظفون في أجهزة مخابرات إسرائيلية يتسترون وراء أسماء ومعرّفات عربية ويبثون سمومهم كي يشوّشوا علينا ويعكروا صفاء نبع إيمان عربي مطلق بحقنا، ولكن الأمر ليس كذلك مع بالغ الأسف والحزن والأسى.

فهناك من يؤمن ويصدق هذه الفرية التي تجد لها رواجا وقبولا، وأيضا فإنه من العار أن يكون الإيمان بها عربيا أقوى من الإيمان بها صهيونيا؛ فالصهاينة لم يزعموا أن الأرض التي يغتصبونها قد اشتروها بالمال، حيث أن حجتهم في الاحتلال والاستيطان بوحشية السلاح تتستر وراء ادعاء بحق ديني في تملكها بالدرجة الأولى.

ولكن ألا يوجد من الفلسطينيين من باع أرضه أو بيته لمستوطنين يهود؟ بلى، ففي أي بلد يقع تحت الاحتلال ثمة من يسقط في وحل الخيانة، فيتحول إلى جاسوس على شعبه وعينا تنقل الأخبار إلى العدو، وثمة من يبيع ما يملكه بدوافع مختلفة، ولكن كم نسبة هؤلاء؟ وإذا قلنا للحركة الصهيونية خذي ما تم شراؤه، واتركي ما تم احتلاله بالقوة فكم سيبقى لها؟ حقيقة لا شيء يذكر .. هذا ناهيك عن عمليات الاحتيال في عمليات البيع بحيث يظن البائع أنه باع لابن شعبه وإذ بهذا وسيط للعدو، وهذا ما يسمّى عندنا بالتسريب.

هناك كثير من الفلسطينيين الذين عرض عليهم بيع قطعة أرض صغيرة أو بيت قديم بمبالغ من ذوات الأصفار الست أو السبع فأبوا ولو قبلوا لتملكوا بها عقارات/متاجر/مزارع/شركات في حواضر العالم الغربي بل والعربي .. ومن بالغ الحنق أن أحد هؤلاء وأتمنى أن يكون صهيونيا يتستر بمعرّف عربي قال: بل بعتم ولكنكم لم تفلحوا في استثمارها وأنفقتموها، وعدتم إلى البكاء والتوسل والتسوّل .. أستغفرك ربي وأتوب إليك .. يا ليتني متّ قبل أن أسمع أو أقرأ هذا الهراء.

ويجب أن نضع الأمور -ما دامت الوقاحة في قذف الاتهامات والأباطيل وصلت إلى هذا الحد- في نصابها، ونذكّر بأن فلسطين كان بها عائلات من دول عربية أخرى امتلكت أراض باعتها إلى الوكالة اليهودية، وهذا مثبت بالأسماء والأرقام، فلا نأخذ شعوب تلك الدول بجريرة إقطاعي جشع منها، مثلما لا يجوز رمي الفلسطيني وأخذه بفعل من هو ليس منه بالمفهوم الوطني الحديث .. ومن يخون ويبع أرضه يتحول هو وعائلته إلى كائنات منبوذة من عموم الشعب الفلسطيني والشواهد كثيرة!

إن من قام بتسريب عقار وقف عمر بن الخطاب التابع للكنيسة الأرثوذوكسية ليس مسيحيا فلسطينيا بل البطريرك اليوناني، فهو ليس فلسطينيا ولا عربيا حتى .. أما الحاج موسى الخالص -رحمه الله- فقد عرض عليه بيع محله في القدس بالمبلغ الذي يريد، ولكنه قال أنه يقبل بشرط توقيع كل المسلمين (بمن فيهم الأطفال) على هذه الصفقة، وتحمل أذى المستوطنين ومضايقاتهم كي يلقى ربه دون أن يلحق به هذا العار، ومثله كثير.

 

 

وهل مئات الألوف (حوالي 700 ألف فلسطيني) الذين أخرجوا بالقوة والمجازر البشعة من مدنهم وقراهم في الساحل والجليل والنقب قد باعوا أرضهم؟ كيف ونحن نتحدث عن أكثر من 530 قرية تعرضت إلى ما يعرف بالتطهير العرقي .. فهل ما تركه هؤلاء وراءهم من أرض وزروع وبيوت ومضارب قد قبضوا ثمنه سلفا؟!

إنه من العار أن يكون (إيلان بابيه) يهودي الأبوين، والذي حارب العرب حينما انخرط في قوات الجيش الإسرائيلي أكثر إنصافا ومراعاة لحقيقة التاريخ، حين سطّر كتابه (التطهير العرقي لفلسطين-2006) وهو مترجم إلى العربية، ولكن أمة إقرأ لا تريد أن تقرأ .. والله إنني أخال الرجل يجلس أمام حشد من المستوطنين أو رجالات الأمن والجيش يقولون له: هناك عرب يتكاثرون يقولون بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم لنا، فلماذا تنبش الوثائق لتظهر أننا أخرجناهم منها بارتكاب المجازر يا (إيلان)، أيكون العربي أكثر تصهينا منك وهو المسلم وأنت اليهودي؟!

ليس هذا فقط، بل ليعلم القاصي والداني أن الصهاينة مع أنهم يحتلون قرى فلسطينية هدموها وغيروا معالمها وأطلقوا عليها تسميات عبرية، لو أتاهم لاجئ في أي مكان من العالم ومعه وثائق ملكية لأرضه المغتصبة فيها، لدفعوا له من الأموال ما يضمن له رفاهية العيش في أي عاصمة عربية أو غربية، مقابل توقيعه صك تنازل عنها .. ولكن الفلسطيني لم يفعل ذلك لا هو ولا ابنه ولا حفيده ولن يفعل بعون الله، ولربما كان يجد نوعا من المواساة المعنوية حينما كان يحمل (كوشان) أرضه المغتصبة أمام صحافة العالم فيجد تشجيعا وبعض الدعاء من أشقائه، فبات اليوم متهما، ويسلكه عرب بألسنة تقطر حقدا وسمّا!

 

أكذوبة تضييع الفرص 

أما أن الفلسطيني قد أضاع فرصا كثيرة برفضه حلولا طرحت عليه للتسوية؛ فهذا أيضا كان يفترض أنه من المسلّمات والبدهيات؛ فالفلسطيني لم يبلور هوية وطنية قومية مستقلة عن العرب، مثلما فعل هؤلاء فور اغتصاب أقطارهم من قبل الجيوش الأوروبية، ومن يرجع إلى الأرشيف يجد الاستخدام الواسع غير المتحفظ لتعبير (العرب) لوصف المواطنين الفلسطينيين، وظلت قياداته المحلية، وإن اختلفت فيما بينها حدّ التنافر تعتبر مرجعيتها الدول العربية التي تشكلت منها الجامعة العربية .. أي لم يكن الفلسطيني يتصرف على هواه في مواجهة المشروع الصهيوني.

ولا ننسى كيف أن العرب أجهضوا الثورة الكبرى التي انطلقت في 1936 واضطر الإنجليز إلى جلب عشرات الألوف من الجنود من القطر المصري، وذلك لأن العرب يثقون بحكومة (صديقتهم بريطانيا) وتتابعت النكبات والهزائم، وأقول وأنا الرافض جملة وتفصيلا لاتفاق أوسلو، بأن عرفات لو وجد الدول العربية تميل إلى لخيار المواجهة ما كان لينخرط في هذا المسار، وهو حين حاول الخلاص منه حوصر في مقره حتى شارف على الموت، واشتكى هاتفه من قلة التواصل من زعماء العرب باستثناء يتيم معروف .. ومن ناحية أخرى هي الأهم؛ هل على الفلسطيني التنازل عن حقوقه حتى يقال عنه من بعض العرب بأنه محنك وحصيف ويلعب سياسيا بمهارة؟!

هذا والله شيء عجيب وغريب، كيف لا وعاصمة اللاءات الثلاث (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف) تجري محاولات لضمها إلى ركب التطبيع مع الصهاينة؟

على كل حال مهما جرى ومهما حصل من عربدة تيار (الليكود العربي) فإن الفلسطيني مع أشقائه العرب سيظل حاله حال المقنع الكندي مع قومه حين قال:-

وإن الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدا

أراهم إلى نصري بطاءا وإن هم

دعوني إلى نصر أتيتهم شدا

فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن ضيعوا غيبي حفظت غيويبهم

وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم

وليس كريم القوم من يحمل الحقدا

لفترة طويلة رفضت فعاليات الفلسطينيين الوطنية فتح جامعات كي يظل التواصل بين شبابنا وإخوانهم العرب، ولما فتحت الجامعات حرصوا-لذات السبب- ألا تشمل كل التخصصات .. وثمة بلاد عربية كان من أهلها فرق عسكرية كاملة ضمن قطاعات الجيوش الأوروبية الغازية شاركت في قتال أبناء جلدتها واحتلال أوطانهم ومنها فلسطين، فيما لا تجد مثل هذا في (تساهال) ولا ينظر الفلسطيني إلى هؤلاء إلا كضحايا .. فليس أقل من ترك الكذب والافتراء ولوم الضحية وسيف الجلاد يقطر من دمها .. ختاما أعود و أقول بأنني أشعر بضيق شديد لأنني مضطر لإعادة التعريف بما يفترض أنه معروف ومفهوم ومستوعب.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.