شعار قسم مدونات

النخبة بين رفض الدين ورفض رجاله

رجال الدين الايزيديين، أثناء تلاوة الأقاويل الدينية (أقوال شيخ أدي)
الكاتب: جبران خليل جبران، الذي اعتبر أساس الفساد هو التزواج والتوأمة بين رجال الدين ورجال. (مواقع التواصل الاجتماعي)

من منّا لا يعرف ليو تولستوي، الفيلسيوف الروسي، الثائر على ذاته، قبل أن يثور على محيطه ومجتمعه كذلك حال جبران خليل جبران، الذي اعتبر أساس الفساد هو التزواج والتوأمة بين رجال الدين ورجال السياسة وأصحاب رؤوس الأموال، فكان يعتبر هذا التحالف الثلاثي، قد أنتج التخلف والفقر والظلم والقهر، من خلال سلطتهم الدينية، وهي في مجتمعاتنا المحافظة والتي تميل إلى الروحانية، تُعتبر مقدسة وغير قابلة للمناقشة، استطاع أن يخترق العالم السياسي من خلال قدسيته، واستطاع أن يصبح جزء من اللعبة السياسية ومقاليد الحكم، كان ينتقد استغلال رجال الدين للشريعة، وهذا الإنتقاد نابع من شخصيته وطبيعته المنجرفة وراء الفكر العبثي أو الجنوني، الفكر الذي لا يؤمن بإلهٍ أو شريعةٍ بالمعنى المتعارف عليه.

ولكن، من دون شّك، فإن الإثنين، لهم ميولهم الربانية وعقيدتهم الخاصة في تقديس الخالق، بعيدًا عن الطريقة التقليدية، التي يتبعها الناس إن كان في لبنان أو في روسيا، ولكن هذه الطريقة التعبدية الثورية لها أثمانها وعواقبها، فلقد جاء طرد ليو من المجمع المقدس البروتستانتي.

مدونات - تولستوي
مدونات – تولستوي (مواقع التواصل الاجتماعي)

الديني وكهنوته السياسي، المقيد من السلطة الدينية، فهو من الذين شاركوا في الحروب الروسية ضد الدولة العثمانية وقاتل المسلمين، ولكنه إكتشف زيف وكذب السلطة الروسية، وتشويهها للمسلمين في تلك البلاد أي القوقاز وداغستان، وأدرك أنهم يتمتعون بثقافة وقيم إنسانية لم يعرفها عنهم من قبل، هذا الثائر، ثار على دينه المسيحي، وكتب كتاب بعنوان " اعتراف" حيث أبدى قلقه، حيال رجال الدين الذين شوّهوا الدين تمامًا، من خلال ممارساتهم الشاذة عن أخلاقيات المسيح، في كتابه "اعتراف" يقف تولستوي بشجاعة تامة ليخبربنا بقلقه وفكره الذي لم يتوقف قط حول ديانته ورجال الدين من القساوسة والرهبان الذين سيطروا على الحياة الدينية والسياسية، وعلى عقول ملايين من الناس في روسيا القيصرية، وكانوا أكبر عائق أمام حركة العلم. حتى وصلت الأمور معه إلى قلقٍ حيال الدين نفسه، ولكنه لم ينكر المسيح إطلاقًا، فكان فيلسوفاً مؤمناً على طريقته الخاصة، وعلى المقلب الآخر، كتب عن سيرة النبي محمد بعنوان "حكم النبي محمد" الذي أبدى اعجابه بخلقه وحكمته اللامتناهية.

أما في لبنان، وخصوصًا بعد الثورة، التي انفجرت في 17 تشرين، بدأت الناس بشن هجومٍ عنيف على رجال الدّين، من كل المذاهب والطوائف، ففريقٌ طالب بالعلمانية المتطرفة، خصوصًا بعد فوز الطلاب في إنتخابات الجامعة، التي اعتبرها البعض، إنها مؤشر إيجابي رافض للأحزاب التقليدية، وفريقٌ طالب بالدولة المدنية التي حسب مفهومهم، عزل الدين عن السياسية، وإلغاء المحاكم الدينية، وفرض قانون الأحوال الشخصية الموّحد، فظاهرة معاداة رجال الدين، تحمل في طياتها معاداة الأديان عمومًا، على نسق الثورة الفرنسية التي قامت على الكنيسة، وعلى نسق الثورة البلشفية، التي حاربت الأديان ودمرت كل أماكن التعبد والكنائس، طبعًا، إستنادًا إلى تعارض الدين مع التطور والعلم، وتاريخهم الأسود في أوروبا تحديدًا، حيث كانوا يكنزون الأموال، في الوقت الذي كانت الناس تموت من الجوع.

للأسف، كل غضب الثوار والناشطين صُوّب تجاه رجال الدين وكأنهم هم أصل البلاء، ولكن الحقيقة ليست كاملة، هناك مذاهب يتحكم فيها الدين بالسياسية، وهناك العكس، حيث السياسة تتحكم بالدين، طبعًا، فإن الفساد، لم يترك شريحة اجتماعية إلا وقد أفسدها، ومن ضمنهم رجال الدين، ولكن رجال الدين هم بشر، يخطئون ويصيبون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ولكن الحملة لا تقصد رجال الدين بقدر ما تهدف إلى معاداة الأديان من غير أن يدركوا ذّلك، فإن الأديان جميعها، السماوية منها والوضعية، جاءت لتهذيب الإنسان، ومحاربة الفساد، وجاءت لإفشاء السلام على الأرض وإقامة حضارة إنسانية تتمتع بالعدل والسلام والعدالة الإجتماعية، بدءًا من نوح إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أخطأ رجل الدين، فهذا لا يدل على أن الدين هو من أخطأ.

هذا التخبط الحاصل، سببه ليس وليد اللحظة، ولكنه نتيجة عقود من الزمن تسببت بها المؤسسات الدينية، من دعم الطغاة، ومساندة الظلمة، والوقوف في وجه تطلعات الشعوب التي نزلت للمطالبة بحقوقها، لا بد لها من مراجعة حساباتها، فإن الأديان وعلى رأسهم الإسلام، جاء كي ينتشل البشرية من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، وهذه الإرهاصات سببت نقمة على الدين، من الذين ليس لديهم إداركٌ ووعي، آخذين جبران وليو نماذج عن الاعتراض الديني، ولكن ليو وجبران كانا مؤمنين بوجود الخالق، فإن ثورتهم كانت محصورة برجال الدين، وليس على الخالق.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.