بعد ثورة 17 تشرين تشكلت الكثير من المجموعات الثورية التي تنشط في الساحات والصالونات السياسية وبدأت مؤخراً في البحث عن ورقة حلول بعد أن عجزت الحكومة والسلطة عامة بالخروج من الأزمة الخانقة، هذه الورقة تطرح حلول للمشاكل التي يعاني بها الكيان اللبناني من الناحية البنيوية وليس فقط حلول اقتصادية وسياسية مؤقتة إذ أن الكيان بذاته أصبح آيل للسقوط والاضمحلال وهذا هو السبب الذي جاء بالفرنسي إلى لبنان ناهيك عن المصالح الاستراتيجية والرسائل الاقليمية، فبدأت أصوات تطالب بعلمنة الدولة كحل بديل عن الدولة الطائفية التي تحكم البلاد وتأخذ الطائفية كدستور وفلسفة تطبقه في كل مفاصل الدولة وفي التعيينات من رئيس الجمهورية إلى أصغر موظف.
إذا عدنا بالتاريخ إلى عام 1860 حيث نشأة لبنان الأساسية القائمة على الطائفية في جذورها التكوينية، من دون شك فإن هذا الكيان قام على الشواذ الطائفي، ثم في سنة 1920 حيث أُنشأ دولة لبنان الكبير ووُضع له دستور مطابق لدستور الجمهورية الفرنسية الثالثة آنذاك، فإن الدستور لم يعطي للدولة ديناً أو أيديولوجيا دينية إنما أكتفى في المادة التاسعة بعطاء قدسية للذات الإلهية وحرية في العبادة، فإن الانتداب جاء حتى يُرسخ الطائفية وليس المدنية التي قامت عليها فرنسا وذلك من أجل تعزيز سيطرتها، ولقد عزز ميثاق 1943 الطائفية السياسية التي انعكست تلقائياً وعززت الطائفية الاجتماعية الغرائزية وطبعاً فلقد تحولت هذه لتكون العقيدة السياسية المتبعة لدى معظم الأحزاب اللبنانية حيث أدت إلى انقسام اجتماعي عامودي أدى في نهاية المطاف إلى عدة نكسات آخرها انتفاضة 17 تشرين الشعبية وذلك بسبب الأزمات الاقتصادية والنقدية التي يصعب حلها والوضع السياسي المعقد جداً
العلمانية هي ردة فعل على الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك التي دمرت أوروبا وهي ردة فعل على التخلف الفكري السائد آنذاك وذلك لتعارض الكنيسة مع الحداثة مما أدى إلى إعدام الكثير من الفلاسفة والعلماء
نتيجة ذلك بدأت أصوات الكثير تطالب بعلمنة الدولة كبديل، مما لا شك فيه أن المناداة بالعلمانية ليس وليد اللحظة وليس طرحٍ جديد ولكن بعد فشل الذي وصلت إليه الدولة وسقوط فلسفته الطائفية كان لابد من طرحٍ بديل للنجاة، فبدأت تلك المجموعات إضافة إلى القوى السياسية الموجودة في السلطة أصلا ً بطرحها، فمنهم من نادى بصدق ومنهم من نادى مجاملةً ومنهم من رفضها ولكن قبل دراسة قابلية تطبيقها ما هي العلمانية؟
طبعاً هناك الكثير من الناس من الفريقين الإسلاميين والليبراليين وغيرهم يعتبرون أن العلمانية هي مجرد فصل الدين عن الدولة وطبعاً إن هذا المصطلح هو تبسيط للأمور وسطحي جداً، في الواقع ليس هناك مصطلح واضح ومحدد، هناك الكثير ممن تكلم وتحدث عن العلمانية ولكن الأقرب للواقع والمنطق هو المصطلح الذي تكلم عنه عبد الوهاب المسيري في كتابه الشهير "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" في هذا الكتاب يعتبر المسيري أن العلمانية أعمق من ذاك المعنى البسيط بكثير حيث قال إنها تجريد الإنسان من معاني الإنسانية، فإن الإنسان يختلف عن الحيوان بعقله وإنسانيته التي تتجلى بالمبادئ الأخلاقية والقيمة السامية والشعور بالآخرين، فهي تحويل الإنسان إلى آلة ومادة مجردة من الروح، فهي كالنظر إلى الأهرامات بشكل مادي و خارجي دون الرجوع إلى التاريخ والتعمق فيه من الناحية الوجدانية والروحية
فإن العلمانية هي ردة فعل على الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك التي دمرت أوروبا وهي ردة فعل على التخلف الفكري السائد آنذاك وذلك لتعارض الكنيسة مع الحداثة مما أدى إلى إعدام الكثير من الفلاسفة والعلماء وعلى سبيل المثال كوبرنيكوس وغاليليو اللذين تكلما عن أن الشمس هي مركز الكون وهذا يتعارض مع الإنجيل، كما أن الشيوعية جاءت كردة فعل على الثورة الصناعية التي أنتجت الطبقية فانبثق منها البرجوازية وطبقة العمال، فجاء ماركس وانجلز ليستنهضوا العمال من بطش البرجوازية ولكن فالعلمانية لا تقف عند حدود السياسة ولا الاقتصاد فهي فلسفة ونموذج حياة "life style" حيث يصبح كل شيء المرأة والطفل والسيارة وغيرها سلعة وهي طبعاً من ضمن سياق التوجه الرأسمالي الذي يسعى إليها أصحاب رؤوس الأموال.
كلا ليس الحل بالعلمانية فمن الأخطاء القاتلة التي يعاني منها مجتمعنا والكثير من الناس هي الإسقاط الكلي بدلاً من النسبي للتجارب الخارجية فعلى سبيل المثال لا نستطيع أن نطبق التجربة التركية في لبنان لعدة معطيات والاختلاف في التركيبة الاجتماعية، الحل في لبنان يكون عبر إلغاء الطائفية السياسية وليس الطائفية الدينية، الحل يكون عبر ترسيخ منذ الصغر مفهوم الوطنية الصحيحة و تطبيق المواطنة القائم على المساواة في الحقوق والواجبات وذلك من خلال تأصيل الوعي لدى جيلٍ كامل ومن خلال ضمان الحريات السياسية والمدنية وتحويل الدولة إلى دولة القانون والتعددية الفكرية والسياسية والدينية و تداول السلمي للسلطة واحتفاظ كل طائفة دينية على شعائرها ومحاكمها الخاصة بها، هكذا يستطيع لبنان أن يتحول إلى دولة متطورة حقيقية تتمتع بالعدالة الاجتماعية والوصول إلى دولة الرفاه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.