كتب الروائي الأسباني الشهير ميجيل دي ثيربانتس سافيدرا، روايته الأشهر دون كيشوت عن بطله ألونسو كيكسانو صاحب المزرعة الثري الذي يقضي معظم وقته في قرأت القصص الخيالية ويحلم بأن يكون بطلا كما أبطال القصص التي يقرأها، فيتخيل نفسه فارسا من فرسان العصور الوسطى يركب حصانه ويصارع التنانين، حتى تلبسته الحالة، فارتدى درعاً وأطلق على نفسه اسم دون كيشوت، وامتطى فرسه وخرج من مزرعته بحثا عن التنانين ليرضي طموحه، ويحارب حربه المقدسة ضد "أهل الشر" ، ولأن التنانين والعمالقة غير موجودين إلا في مخيلته، فبدأ يتخيل طواحين الهواء هم الأعداء والوحوش العملاقة ويحاربها، وحين رأى الناس جنون دون كيشوت رغبوا في علاجه، ووضعوا له خطة تفيقه من أوهامه، لينتهي الأمر بدون كيشوت بالاستيقاظ على حقيقة أفعاله ويعلم أنه كان غبيا لا فائدة مما يفعل، ولكن بعد فوات الأوان، ليصاب بحمى شديدة ويموت.
بحسب تقارير الخبراء خلال الأيام الماضية من هذا الشهر فإن منسوب بحيرة ناصر وصل يوم 12 أغسطس لــ 178.488 فوق سطح البحر، لينخفض في اليوم الذي يليه إلى 178.454 يوم 14 أغسطس، بمقدار انخفاض يعادل 34 مم أي قرابة 3.5 سم وبحسبة بسيطة فإن في معادلة المسافة مع الملء فإن كل متر ارتفاع يعادل 5 مليار متر مكعب من المياه، بما يعني أن الانخفاض الذي تم يوازي 175 مليون متر مكعب، يضيف إليها الخبراء تدفقات الفيضان الموسمي بمقدار 600 مليون متر مكعب لم توضع في الحساب، كان من المفروض أن تجبر العجز فإن الفقدان الحقيقي في البحيرة يساوي 775 مليون متر مكعب هي نتاج الــ 175 مليون متر مكعب النقص بالإضافة إلى مياه الفيضان الــ 600 مليون متر مكعب التي لم تصل.
في المقابل يروج إعلام النظام لانتصار كبير وإنجاز غير مسبوق بعد أن تم الاتفاق على إنشاء محطات تحلية المياه في عدد من المحافظات والمدن سيتم افتتاحها بعد 18 شهرا قدر النظام عددها بـ 19 محطة في إطار إستراتيجية لزيادة موارد مصر المائية، بحسب الإعلامي الحكومي والموالي وبيانات الحكومة نفسها، لكن هل ستقوم هذه المحطات بهذا الهدف حقيقة، بعد هذا العجز المائي الذي تشهده مصر نتيجة انتهاء إثيوبيا من الملء الأول لسد النهضة.
يتفاخر النظام بأنه سيمتلك 65 محطة لتحلية المياه موزعة على ست محافظات بإجمالي إنتاج يومي 750 ألف متر مكعب، تم تخصيص 135 مليار جنيه بالإضافة إلى 300 مليون جنيه لمشروعات الصرف الصحي، كما أن الحكومة انتهت من 1131 مشروعا جديدا لمياه الشرب والصرف الصحي بقيمة 13.6 مليار جنيه بالإضافة إلى إعادة تأهيل المحطات والشبكات القائمة بتكلفة 8.7 مليار جنيه، ذلك بخلاف محطات معالجة مياه الصرف الصحي في كل من القليوبية وسيناء، وإن كان الأول يتم ترقيته ليعمل بطاقة إنتاجية أكبر فإن الثاني سينشأ بتكلفة 15 مليار جنيه، وتعمل الحكومة على إنشاء محطة ثالثة في بحر البقر بقيمة إجمالية 16 مليار جنيه.
كل هذه المشروعات أو جلها هي مشروعات يتم تمويلها من خلال قروض إما من صندوق النقد الدولي أو الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، أو من خلال سندات وأذون خزانة يتم طرحها محليا أو دوليا تضخ في مشروعات خدمية من المفترض أنها لا تدر ربحا ما يعني أن المواطن بشكل غير مباشر سيدفع أقساط هذه الديون وكذا خدمة الدين، إما مباشرة من خلال بيع الخدمة ورفع سعرها، أو من خلال ضرائب جديدة ستفرضها الحكومة، لتزيد أعباء المواطن المطحون من الغلاء والتضخم بالأساس، كما أن هذه المشروعات هي خصم من رصيد المشروعات الإنمائية التي من المفترض أن توفر فرص عمل للشباب، فبحسب البنك الدولي فإن خلق فرصة عمل واحدة يكلف من 25 – 30 ألف دولار، ولأن الآلة الحاسبة عندي لا تعمل سأترك لك عزيزي القارئ أن تحسب المليارات التي أنفقت في مشروعات تحلية المياه، أو معالجة مياه الصرف الصحي، التي تضاعف أمراض الكبد الوبائي والكلى والسرطانات، وما كان يمكن أن توفره من فرص عمل للشباب.
كل ذلك جراء توقيع اتفاقية لم تكن مصر بحاجة إليها أضاعت حقوقنا المائية وأثبتت لأثيوبيا حق لم يكن لها في بناء السد وخصم حصة مصر التاريخية، والأدهى أنها تؤسس لسابقة يمكن لباقي دول حوض النيل أن تمشي عليها وتبني سدودا قد تحرم مصر من قطرة مياه واحدة في المستقبل، فقط ليظهر البطل المغوار بأنه يحل أزمات مصر بطرق غير تقليدية وهو في الحقيقة يحارب طواحين الهواء، فهل ينتهي المآل بدون كيشوت مصر إلى ما آل إليه ألونسو كيكسانو في رائعة ميجيل سافيدرا؟