شعار قسم مدونات

في بيتنا قطعة من الجنة

لا أخفي عنكم غزارة دمعات أُمي في بداية كل عام دراسي جديد، وكأن تلك الأمنية القابعة وسط فؤادها الحَزِن لازالت تكبر يومًا عن يوم، (طفلٌ جميل، ذو بشرة بيضاء، بلون عينيه الخضراوتين، وبمشيته العادية بتململ ملحوظ، حاملٌ حقيبته الزرقاء على ظهره، جارٍ نحو الحافلة، ملوحٌ لوالدته، ومودعٌ لها بدعاء الخروج من المنزل – كحال الأطفال جميعًا في هذا العالم- ). إنّ هذا المشهد الاعتيادي، أمنية أمي منذ ستة عشر عامًا، كانت ولا تزال تدور وتدور في مخيلتها، وسط دمعاتها المنهمرة ليلًا وصباحًا، وكأنها تناجي الله بداخلها بسرية تامة.

 

في عام ٢٠٠٤، شاء القدير أن يرزُقَ أمي وأبي مولودَهما الأول من الذكور بعد أربع فتيات كقطع من السكر؛ لتدخل الفرحة قلبيهما لفترة قصيرة، معلنة الاحتفالات آنذاك بقدومه. فكان اسم "أسامة"، من نصيبه؛ ليقال لهما حينها، سيكبر كالأسد، له هيبته بين الجميع؛ ليطلق على أبي لقب "أبا أسامة"، وسط كل ذلك الاهتمام به، والمدجج بالغيرة القاتلة من قِبَلي، إلى حين مرور تسعة أشهرٍ على تلك الفرحة، غادرت السعادة قلبَيْ أمي وأبي، وقُتلت غيرتي، لتعلن دمعات أمي انهمارها دون توقف.

 

أُصيب أخي بحمى، حالت بين طفولته البريئة وبين فرحة عائلتي به كعائقٍ منيع، ليُضَم أخي لفئة "ذوي الاحتياجات الخاصة"، مرض غير وراثي، أطاح به الفراش دون حراك، مرافقته تلك النوبات المتكررة، جعلت منه طفلًا غير عادي، لا يمشي كالبقية، ولا ينطق باسم "ماما" أو "بابا". رغم قلة إدراكي لتلك الأحداث في ذلك الوقت، إلا أنها كانت ثقيلة على ذاكرتي وكأنها تأبى النسيان، لازال مشهد هرولة أبي حاملًا بين يديه أخي متشنجًا بين يديه نحو السيارة، تتبعه أمي قائلة: يارب الْطف به، يارب أسامة، أسامة… يدور ويدور في مخيلتي، وكأنه ناقوس الذكرى، يذكرني بالذي قد مضى. وقوفي أنا وشقيقاتي على باب المنزل منتظرين عودتهما في كثير من الليالي، وهما يحملان ذاك الملاك بين أحضانهما، ليخبرانا بأنه بخير وبأنه يحبنا جميعًا، لتصنع كلماتهما هذه ليلتنا بدقة تامة. فكانت كذباتهما البيضاء، غلاف الأمان لقلوبنا الصغيرة آنذاك.

تفاصيل صغيرة، كانت تصنع الفرحة في منزلنا لأيّامٍ وشهورٍ طوال، التفاصيل ذاتها هي الروتين المعتاد عند الأكثرية، فبعد مرور حفنة من الأعوام المؤلمة، أي ما يقارب العشرة أعوام، كان هتاف إحدى شقيقاتي السبب الرئيسي لعودة الضحكات تعلو على شفاه والدايّ، "أسامة بمشي، أسامة بمشي". ليخطو البطل والأسد الخاص بنا أولى خطواته وسط فرحة أبي، وتصفيق شقيقاتي، وكما جرت العادة، وسط دمعات أمي وشكرها لله تعالى. طبيب تلو طبيب، مِنْ مشفى إلى آخر، تنوعت أدويته وعلاجاته، سفر ليوم وأكثر، لتمتد لأشهر عديدة، كل ذلك وأكثر، إلا أن والدايّ لم يتقاعسا يومًا عن رعايته، لم يشتكيا لأحد غير الله، كانا كالجدار الصامد، اتكأ أخي عليهما فصمد إلى يومنا هذا؛ بفضلهما، إذ لم ينم لهما جفنٌ وهما يتقاسمان ليالٍ كثيرة، يتقاسمان السهر بخفة، ليأخذ أحدهما قسطًا من الراحة، في حين يبقى الآخر يراقب أخي في حال دخوله نوبة جديدة.

 

استغرب بعض الأصدقاء منا؛ إذ بدَوْنا عائلة احتضنته جيدًا، وكأنه طفل كغيره تمامًا. أذكر ذات مرة، حين سألتني إحدى زميلاتي لي في مدرستي: ألا تخجلين منه؟ لن يتقدم لخطبتك أحدٌ أنتِ وشقيقاتك بسببه. من أين لكِ كل تلك الجرأة لمرافقته في كثير من الأحيان؛ إذ تمسكين يده وتتجولين في الأنحاء؟ ألا تخجلين منه؟ فكان جوابي حينها كافيًا ليسكت جهلها المتداول لدى البعض، وقلت: قطعة في الجنة كانت، ثمّ سقطت في بيتنا، أنتخلى عنها الآن؟ فوالله ما هو سِوى بشرى لنا بالجنة يوم الحساب، أتدرين ما الجميل في كل ذلك؟ الجميل أنّني سأراه هناك كأنفسنا تمامًا، سينطق باسمي، وسيحادثني كما أحادثه الآن، نحبه ويحبنا. ما الضير فيه إِذَن؟ لازال جميلًا كالسابق.

 

حتّى مخاصمة بعض الفتيات لي عند علمهنَّ به، ما كان يزيد مني سوى إصراري على أنه وحيد قلبي. لم أنظر له يومًا إلّا نظرات الفخر؛ لكونه في حياتي جبلًا راسخًا، ثابتًا في حبه لنا. وسط دمعات أمي، هتافات شقيقاتي، مطاردات والدِي للحصول على دوائه بدايةَ كل شهر جديد، وازدياد تعلقي به.. كَبُر أخي، وكبر الحب في بيتنا، ليصبح الحضن الدافئ لنا، يضمنا وسط محيطه، مستمعين لصوت ضحكاته المزعجة ليلًا ونهارًا، ليحتضن الواحد منا عند بكائه لوحده. فكُنّا العائلة الأكثر تماسكًا فيما مضى، حين أثبتنا للعالم أجمع، أنّ هذه الفئة من المجتمع، الأكثر طيبة وبراءة، ما هي سوى نعمة، ينعم الله بها على عباده؛ ليسهل لهم طريقهم نحو الجنة، وأنّ هؤلاءِ ما هم سوى عناوين المحبة والسلام والألفة.

 

فوالله كل ما هممت بالسقوط يومًا، رأيته في حلمي يخبرني: "واصلي وأكملي، أنا بجانبك هنا“، لأستيقظ صباحًا كأن الحياة قد بُثَّتْ في داخلي من جديد. كوصية أخيرة، أسعِدوهم؛ فإنّهم إن فرحوا، ابتسمت الحياة لكم، وإن تَعِسوا، عبست الحياة بأوجه أرزاقكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.