شعار قسم مدونات

ذكرى مجزرة بيت الضيافة.. الانقلاب الشيوعي الأكثر دموية في السودان

يُصادف الثاني والعشرون من تَـمُّوز/ يوليو من كل عام ذكرى استعادة الرئيس السوداني الأسبق الراحل جعفر محمد نميري سلطته المنقلب عليها من قبل ضباط الحزب الشيوعي  في التاسع عشر من ذات الشهر -حركة 19 يوليو التصحيحية- في عام 1971 أي بعد ثلاثة أيام فقط من الانقلاب عليه؛ حيث مثل انقلاب الضباط الشيوعيين أكثر الانقلابات العسكرية في السودان دموية حيث مارس هؤلاء الضباط أبشع الجرائم الإنسانية في تاريخ السودان الحديث، حيث قتلوا ثلاثين أو يزيد من أسراهم من ضباط وضباط صف وغيرهم من الأبرياء، وذلك عندما شعروا بفشل انقلابهم ومحاصرتهم في القصر الجمهوري ببعض المدرعات العسكرية المناصرة للنميري، حينها أفرقوا كل ما في جعبتهم من ذخائر عسكرية على أجساد من يعتقلونهم "الأسرى" في بيت الضيافة، وولوا هاربين تاركين الدماء التي تُسيل في الأرض علاماتٍ تخبر عن مكان ورفاة الأسرى المغدور بهم.

 

تعود أسباب انقلاب 1971 إلى أن النميري فصل ثلاثة ضباط من أعضاء مجلس قيادة ثورة مايو بقيادة بابكر النور وفاروق حمدالله وهاشم العطا، الذين كانوا على صلةٍ وطيدةٍ برئيس الحزب الشيوعي عبدالخالق محجوب -الذي نفاه النميري إلى مصر وبعد عودته إلى السودان قام بسجنه-، بحجة أن هؤلاء الضباط يُسربون محضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة إلى قيادة الحزب الأحمر وينفذون أجندته السياسية؛ تجدر الإشارة هنا إلى أن الحزب الشيوعي بمعاونة القوميين العرب دَبَرُوْا ونفذوا انقلاب مايو 1969 على الديمقراطية الثانية التي كانت بقيادة إسماعيل الأزهري في رئاسة السيادة والصادق المهدي في رئاسة الوزراء، والذي أُسندت رئاسته إلى النميري؛

 

بعد الانشقاق التام الذي تم بين الشيوعيين المدنيين والعسكريين مع النميري قرروا هؤلاء أي الشيوعيون أن يستعيدوا سلطتهم التي صعدوا عليها عن طريق انقلابهم الأول، الذي انفرد بها النميري والذي أقام دكتاتورية المفضلة بعيداً عنهم كما يحلو للشيوعيون وصفه حينها، وفي الحقيقة بأن النميري رفض أن يكون ألعوبةً لتمرير أجندة الحزب العجوز، فقام الرائد هاشم العطا أحد الثلاثة الذين أبعدهم نميري من مجلسه، بقيادة انقلاب 19 يوليو والذين يعتقدون بأنه تصحيحاً لانقلابهم الأول في أيار/مايو 1969، حيث سيطر العطا على السطلة في نهار ذلك اليوم معلناً بأنهم اِسْتَرَدُّوا ثورتهم المسروقة على حد زعمه، كما أعلن بأن العميد بابكر النور المقيم في بريطانيا هو القائد لقيادة مجلس الثورة الجديد، كما خرجت مظاهرات في الخرطوم رافعةٍ الرايات الحمراء وهاتفةٍ بأن الخرطوم ليست مكة وأنهم سائرون سائرون على طريق لينين.

فشل العطا في أن يحشد التأييد لانقلابه سوى في الداخل أو الخارج كما أن الدول المحيطة بالسودان ترفض من حيث المبدأ وجود أمثال هؤلاء على سدة الحكم، فقررت لييببا إرغام طائرة بابكر النور وفاروق حمدالله المتجهة من بريطانيا إلى الخرطوم على الهبوط الإجباري في مطار بنغازي واعتقال القائد الجديد للثورة في السودان ورفيقه فاروق، حيث مثلت تلك العملية ضربةً موجعة للعطا الذي كان ينتظر وصول من نصّبه على رأس تلك الثورة، حيث جاءت الخطوة الليبية تفعيلاً لاتفاقية الدفاع المشتركة بين الجمهوريات الثلاث، ومحدثة أثراً قاسي على خرطوم الانقلابيين -حيث ذكر هاشم العطا في بيانه بأن السودان سينضم إلى المعسكر الاشتراكي على حساب المعسكر الرأسمالي-، كما أن السعودية اسقطت في جدة طائرة تحمل محمد التعايشي قائد حزب البعث السوداني القادم من العراق، كما أن أنور السادات دعم عودة النميري إلى سدة الحكم، فكانت المحصلة النهائية بأن النميري تسلسل من معتقله وشارك ضباطه في دحر المنقلبين عليه واستعادة السلطة.

 

بعد نجاح التغيير الذي أسقط نظام الانقاذ السابق في السودان، دفع الحزب الشيوعي بكوادره بمختلف خلفيتها النقابية والمهنية للعمل في حكومة الفترة الانتقالية فحُظي بمقاعد كثيرة في تلك المحاصصة الحزبية، في حين تصدى لمعارضة سياسات الحكومة التي هو جزءً منها، هو موقف مستق مع سمات الحزب الشيوعي السوداني، الذي تتناقض مواقفه مع بعضها البعض وتزدوج معاييرها في برهةٍ من الزمن، فالحكومة الحالية كرمت أسر حركة 19 يوليو الانقلابية التي كانت ضحيتها تلك المجزرة، كما حررت صكوك الشهادة والبراءة لضباط 28 رمضان 1990 الذين حاولوا الانقلاب على نظام الانقاذ، والذين تمت إعادتهم للخدمة ومن ثم إحالتهم إلى المعاش وإعطاء أسرهم حقوقيهم المالية؛ وهاهم اليوم يقدمون قيادة انقلاب ثورة الانقاذ 1989 إلى المحاكم بتهمة تقويض الدستور والاستيلاء على مؤسسات الدولة، وهو سلوك يُبين تلك الازدواجية واختلال موازين العدالة في عهد -حكومة الحرية والعدالة بقيادة عبدالله حمدوك- وكأن اليسار في السودان يقول: "حلالٌ علينا الانقلابات العسكرية وحرامٌ على غيرنا، حتى وإن لم تسل فيها قطرة دمٍ واحدة".

 

ختاماً؛ لا أحد من السودانيين يذكر ويمعن الحديث والاِستِرسال عن شكل وكيفية الانقلابات العسكرية الكثيرة في السودان، سوى فقط الحديث بإسهاب عن انقلاب 1971 الذي شكل علامة سوداء فارغة في تاريخ الانقلابات العسكرية، ليس لأنه أتى من حزب سياسي على نفسه، أو لأنه فشل في المحافظة على السلطة بعد المكوث فيها ثلاثة أيام، وإنما بسبب ما أقترف من جرمٍ في حق الأبرياء والعزل الذين قتلهم بدمٍ باردٍ، كاشفاً عن وجهه الحقيقي الدموي وحقده الطبقي، ولأن لكل شيء من أسمه معنى ومدلول، فكانت ألوانهم الحمراء وشعاراتهم كأفعالهم التي تطابقت في ما ذهبوا إليه من ارتكاب لمجزرة بيت الضيافة الشنيعة ومن قبل مجزرة الجزيرة أبا وود نوباوي عام 1970 التي استعملوا فيها الطائرات الحربية والأسلحة الثقيلة في ضرب جماعة الأنصار الحاضنة الدينية والاجتماعية لحزب الأمة القومي، هكذا شيء من تاريخ الحزب الشيوعي الدموي في إيجاز مقتضب، وهو الذي يسيطر علي مجريات الساحة السياسية السودانية في هذه الأيام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.