شعار قسم مدونات

سد النهضة.. السودان بين مطرقة مصر وسندان إثيوبيا شريكٌ أم وسيط؟!

مع انهيار المفاوضات.. مشروع سد النهضة الإثيوبي يدخل عامه الـ10
مع انهيار المفاوضات.. مشروع سد النهضة الإثيوبي يدخل عامه الـ10 (الجزيرة)

في ظل هذه الأزمة الإقليمية والدولية التي نشبت من جراء قيام سد النهضة الإثيوبي والتي يحلو لبعض من المتابعين تمسيها بـ – أزمة القرن الأفريقي – ظل السودان الطرف الثالث فيها غائباً تماماً عن مشهدها وفعاليتها ومعادلاتها، فلا أحد يكترث كثيراً لموقفه سوى كان سلباً أو إيجاباً، فمشهد سد النهضة الكلي يتصدره طرفان هما إثيوبيا ومصر في حين لا أثر للسودان إلا عندما يتم ذكره كطرف مكمل للاجتماعات أو مقر للمفاوضات التي تبحث حلول تلك الأزمة بالرغم من مبادرته الشهيرة عام 2015 التي تستند عليها الأطراف الثلاثة في حل أزمتهم؛ علماً بأن السودان أكثر الدول الثلاث تنازلاً عن حقوقه في مياه النيل منذ اتفاقية 1929 للمياه ومروراً بسد النهضة.

التنازلات التاريخية للسودان عن حصته المائية

بدأت تنازل السودان عن حصته المائية منذ عام 1929 الذي شهد توقيع اتفاقية مياه النيل التي جاءت كرد فعل على استخدام السودان للمياه وإنشائه خزان سنار لتوليد الكهرباء وري بعض المشاريع الزراعية، حيث وافق السودان على بناء خزان جبل أولياء على النيل الأبيض بهدف حفظ وتوفير المياه لمصر دون أي استفادة مباشرة منه فقط مقابل بنائه لسد سنار؛ كما نصت تلك الاتفاقية المعطوبة في فقرتها الرابعة (ب) على ألا تُقام أو تُجرى أي أعمال للري أو توليد الطاقة أو تُتخذ إجراءات على النيل أو فروعه أو على روافده التي تغذية سواء الموجودة في السودان أو في الدول النيلية الأخرى الخاضعة للإدارة البريطانية، والتي قد تضرّ بأي شكل من الأشكال مصالح مصر المائية إلا بموافقة الحكومة المصرية، حيث مثلت تلك الاتفاقية التي وقعتها بريطانيا نيابة عن دول حوض النيل بداية الغطرسة المصرية على مياه النيل، بل ذهبت تلك الاتفاقية إلى أبعد من ذلك عندما حددت نصيب السودان من مياه النيل بمقدار أربعة مليار متر معكب مقابل 48 مليار متر معكب لصالح مصر.

 

وبناءً على اتفاقية 1929 التي أعطت مصر حق الفيتو لإي إجراء على نهرالنيل، ذهب وفد سوداني إلى القاهرة للتفاوض مع مصر بشأن سد الروصيرص وحينها تفاجأ الوفد السوداني بأن مصر تعد العدة لإنشاء السد العالي! فبدأ التفاوض على قيام السدين؛ فمصر اشترطت موافقتها على قيام سد الروصيرص بموافقة السودانيين على قيام السد العالي، وتم التوصل إلى اتفاق بشأن مياه النيل في عام 1959 حيث وافق السودان على قيام السد العالي والذي امتدت بحيرته 150 كليو متر إلى الحدود السودانية مما تسبب في ترحيل قسري لسكان منقطة وادي حلفا التي بلغ سكانها 50 ألف نسمة مع إغراق الشلال الثاني و 200 ألف فدان أراضي زراعية خصبة، ومليون من أشجار النخيل والموالح وكذلك المعادن والآثار، كما أن السودان تحمل التعويضات المادية المرتبته على ترحيال أهالي المنطقة والتي قدرت بـ 37 مليون جنيه مصري إذ أن مصر لم تدفع منها سوى 15 مليون جنيه مصري فقط، ومن ضمن المفارقات بخصوص اتفاقية 1959 أن السودان وافق على القسمة الضِيزى والتي قدرت حصته الكلية من مياه النيل بـ 18.5 مليار متر مكعب مقابل 55.5 مليار لصالح مصر، كما نصت تلك الاتفاقية على تقاسم السودان ومصر للمياه المتبخرة من بحيرة السد العالي والتي قدرت بـ 10 مليار متر مكعب، بالإضافة لتقديم السودان لمصر سلفة مائية سنوية مقدارها مليار ونصف المليار متر مكعب حتى عام 1977 لم تسددها مصر إلى الآن.

محاسن ومثالب سد النهضة على السودان

سد النهضة مفيد جداً للسودانيين لأنه سيتيح لهم زراعة الأرض على زمام النيل الأزرق طوال العام، وبالتالي سيزرعون محصولين بدلاً عن واحد، وسيولد كهرباء أكثر من سدود السودان مجتمعةً مما يمكنهم من شرائها من إثيوبيا في ظل عجزهم المستمر في توليدها، ولن يترسب الطمي أمام سد الروصيرص وسنار، هكذا أجاب وزير الري المصري الأسبق محمود أبوزيد وهو أحد الخبراء الدوليين للمياه، وذلك عندما سئل عن فوائد سد النهضة على السودان، أما المستشار السابق للبنك الدولي في قوانين المياه سلمان محمد أحمد سلمان فقد ذكر بأن سد النهضة للسودان بمثابة السد العالي لمصر لما له من فوائد جمة؛ كما أن فوائد سد النهضة على السودان متعددة حيث تشمل وقف الفيضانات المدمرة من مياه النيل الأزرق، انتظام وزيادة توليد الكهرباء من السدود السودانية طوال فترات العام بعد حبس الطمي الذي يعطل التوربينات أثناء فترة الأمطار التي يكون النيل فيها في قمة جريانه وفيضانه، وشراء الكهرباء الإثيوبية والتي تقلُّ تكلفة توليدها كثيراً عن تكلفة التوليد في السودان، كما أن سد النهضة سوف يساعد السودان على استخدام وتخزين نصيبه من مياه النيل بموجب اتفاقية عام 1959، والذي يذهب أكثر من ثلثهِ أي ما يعادل 6.5 مليار متر مكعب سنويا لمصر بسبب فشل السودان في استخدامهِ بسبب ضعف مواعينه التخزينيه.

 

أكبر مثالب سد النهضة تتمثل في تهديد الأمن المائي للسودان – العطش والجفاف – وكذلك تهديده بالغرق الناتج عن فرضية انهيار جدران السد وهما نقيضان اجتمعا في مثلبةٍ واحدةٍ، وهي الجزئية التي تشترك فيها دولتي المصب السودان ومصر، كما أن الأطراف الثلاثة لم تتوصل إلى اتفاق نهائي يضمن عدم تأثر حصتي السودان ومصر المائية في الحاضر والمستقبل؛ أي ملء بحيرة السد نفسها وما بعدها والتي تكلف 74 مليار متر مكعب وكذلك تعويضات الضرر والاتفاق على الفوائد المشتركة حسب ما نصت عليه اتفاقية المبادئ 2015، وتجدر الإشارة إلى أن مساهمة النيل الأزرق في نهر النيل تمثل أكثر من 80% بالرغم من موسميته، فالواقع يقول بأن مياه النيل سوف تنقص جراء ملء بحيرة سد النهضة، فهل تتحملها الدولتين بنسبة متساوية؟ أم مصر كعادتها تسعى إلى تحميلها للسودان؟ وإن كانت هذه الخطوة ظهرت بوضوح في المفاوضات المستمرة، فمصر متمسكة بحصتها في المياه بحسب اتفاقية 1959، بالرغم من استئثارها بنسبة تفوق الثلثين من مياه النيل، فمن يحظى بنسبة أكبر عليه أن يتحمل كذلك النسبة الأكبر في المخاطر فهكذا تقول البديهيات.

انقسام المواقف السودانية تجاه سد النهضة

لا يخفى على المتابع الحصيف الوضع الجديد للسودان بعد ثورة ديسمبر 2018 التي اطاحت بنظام البشير، فالموقف السوداني في فترة النظام السابق على الأقل كان موقفاً متوحداً لجميع مؤسسات الدولة المعنية بقضية سد النهضة فالنظام السابق كان يقف على شبه مسافة واحدة من مصر وإثيوبيا بل سعى إلى تحقيق مصالحه من سد النهضة دون الإضرار بمصالح الأخيرين، بل كان مبادراً عندما استضافت الخرطوم 2015 مؤتمر اتفاقية المبادئ الذي أصبحت وثيقته مرجعية للتفاوضات منذ التوقيع عليها.

مثلت أديس أبابا محطة مفصلية في تاريخ الثورة السودانية لاحتضانها مفاوضات السلام السودانية بين الأحزاب التي تشكل الحاضنة السياسية لحكومة حمدوك والحركات المسلحة المتمردة، كما لعب رئيس وزرائها أبي أحمد دوراً بارزاً وكبيراً في تقريب وجهات النظر بين المكونيين المدني والعسكري اللذين يقتسمان السلطة الآن، هذا الدور جعل إثيوبيا أقرب الى السودانيين بصفة عامة وأقرب للشق المدني بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك بصفة خاصة، كما أن الشق الأخر بقيادة البرهان وحميدتي أقرب إلى مصر العسكرية بقيادة السيسي فالنظامين تجمعهما حاضنة إقليمية واحدة وهي معسكر الثورات المضادة، وإن كان الأخير أي حميدتي مذبذبا بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وذلك بحسب زياته الأخيرة إلى إثيوبيا. هذا التشرذم في هياكل السلطة السودانية الانتقالية جعل للسودان أكثر من موقف، فالمدنيين يدعمون إثيوبيا كما أن العسكرين يدعمون مصر، دون النظر إلى مصالح السودان المرتبة على قيام سد النهضة أو مثالبه.

 

ختاماً: بعد فشل مفاوضات سد النهضة الأخيرة التي استضافتها الخرطوم برعاية الاتحاد الأفريقي، وفشل الطرفين الرئيسين مصر وإثيوبيا في التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن ملء بحيرة السد وطريقة تشغيله، يتبين أن موقف السودان لازال بين مطرقة مصر وسندان إثيوبيا؛ فالسودان يشارك كوسيط وليس صاحب حق، فلو حسم السودان موقفه النهائي من تلك القضية لتوصل الجميع إلى حلول ولكن موقف السودان المرتبك جعل كل من مصر وإثيوبيا تتعنتان في التوصل إلى الاتفاق ظناً منهما أن السودان سينحاز إليه على حساب الطرف الأخر؛ فمواقف السودان المرتبكة ربما تفهم من مسارات مختلفة فالسودان لا يريد أن يخسر مصر التي تحتل أرض حلايب كما أنه لا يريد ان يخسر إثيوبيا التي ينتظر منها ان تبيعه من كهرباء سدها الجديد وكذلك أن ترسم حدودها الجغرافيا معه، فإذا أراد السودانيون أن يحققوا مصالحهم الفعلية من قيام سد النهضة عليهم أن يتوقفوا عن وضع السودان موضع الوسيط، وأن يعضدوا ويأكدوا على شراكته المتجذرة في اتخاذ القرارات المفصلية حول سد النهضة بالفعل قبل القول!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.