شعار قسم مدونات

شيخ النحاة العلامة محمد عرفة صاحب المذهب الفطري في تعليم النحو

الأستاذ الشيخ محمد أحمد عرفة (1890 ـ 1973) هو أكبر وأشهر أساتذة النحو الأزهريين في عصره، ومع هذا فإن إنجازه الأهم كان في الفقه فقد كان أبرز الذين ساعدوا الامام المراغي الشيخ المراغي ١٨٨١-١٩٤٥ على الإصلاح التشريعي، وكان في إصلاحاته التشريعية أكثر راديكالية بكثير جدا منه في آرائه اللغوية، ومع هذا فقد كانت له آراء إصلاحية فيما يتعلق بتعليم اللغة، وبدور الأزهر في الحياة العامة، كما كان حفيًا بالدفاع عن الإسلام وتاريخه وانتشاره. وهو من باب التاريخ العلمي رأس علماء اللغة الأزهريين في عصر الجامعة ويحتل في المدرسة النحوية مكانا سابقا على من تعاقبوا في الوصول إلى عضوية مجمع اللغة العربية من أساتذة النحو التالين له: الأساتذة محمد على النجار ١٨٩٥- ١٩٦٥، ومحمد محيي الدين عبد الحميد ١٩٠٠- ١٩٧٢، ومحمد الفحام ١٨٩٤- ١٩٧٢ ومحمد رفعت فتح الله ١٩١٢- ١٩٨٤ وإبراهيم البسيوني ١٩١١-١٩٩٥.

 

وقد كان هو نفسه مرشحا لعضوية مجمع اللغة العربية عند نشأته، كما كان مرشحًا للعضوية أيضًا في الانتخابات التي جرت عند منتصف الأربعينيات، وفي الستينيات، لكنه لم ينل هذه العضوية لسبب واحد هو ضعف التأثير الأزهري في انتخابات المجمع. وعلى سبيل المثال، فإنه كان المرشح الوحيد أمام الدكتور عبد الحميد بدوي لشغل الكرسي الذي خلا بوفاة الأستاذ محمد توفيق رفعت أول رئيس للمجمع. وكانت فرصة الأستاذ عرفة كبيرة بحكم تخصصه وبحكم توجه المجمعيين إلى الابتعاد عن انتخاب من يكون في السلطة.. لكن الأمور مضت بالتدريج تحو إيثار الدكتور بدوي بالكرسي، ثم مرت التعيينات التالية دون أن تشمل الشيخ عرفة. وفي مجال التعليم والتربية فقد كان الشيخ محمد عرفة على الرغم من كلاسيكيته المحتذاة، صاحب آراء واضحة في تطوير واستبدال الطرق التربوية في تعليم النحو واللغة العربية.

نشأته

تلقى الأستاذ محمد أحمد عرفة، تعليمًا دينيًا بدأه في الكتاب، ثم درس في الأزهر وتلقى العلم في مسجد دسوق، ثم في معهد الإسكندرية الديني، وفي الجامع الأزهر، ونال الشهادة العالمية. وبسبب تفوقه اختير عقب تخرجه مدرسًا بالأزهر، وظل أستاذا بالأزهر دون أن تشغله المناصب الإدارية، وظل يؤدي هذه الوظيفة السامية حتى بعد أن أحيل للتقاعد، واستمر بعد إحالته إلى التقاعد (1950) يشتغل بالعلم والبحث العلمي معبرًا عن آرائه واجتهاداته واستنتاجاته في كتب وبحوث قيمة.

بعد أن عمل الأستاذ محمد عرفة في كلية الشريعة انتقل إلى كلية اللغة العربية فدرس الفلسفة، ثم اختار في تخصص الأستاذية تدريس الأدب والبلاغة

تفرغه للعلم

عاش الأستاذ محمد عرفة حياته منقطعًا إلى البحث والدرس والتأليف، بعيدًا قدر ما استطاع عن غشيان المجتمعات العامة والخاصة، وما تتطلبه من انصراف إلى أحاديثها. كان الشيخ عرفة نموذجا مبكرا للعقلية الرياضية القادرة على الانتقال بالمنطق من أفق إلى آخر، وهكذا أجاد الفلسفة، وعشق المنطق، وزاده فهمه للتراث النحوي فهما للمنطق الأرسطي وعشقًا للمنطق النحوي وتمسكا به، وكان من الذكاء بحيث اكتشف من قواعد المنطق النحوي ما ارتفع من خلاله بفهمه المنطقي العمومي، وبقدرته على إعمال قواعد المنطق فيما كان يقابله من قضايا.

 

وكان الشيخ عرفة، كما نرى فيما تركه من آثار، قادرًا على استنباط الحقائق، وتلخيص الأفكار، والوصول إلى جوهر النصوص فيما يلتبس على كثيرين حتى من الكاتبين والباحثين، كان الشيخ محمد عرفة واعيًا للدور الذي يُعول على العلوم الأخرى في فهم النحو، وعلى سبيل المثال، فإنه أبان بذكاء شديد عن دور علوم الفلسفة في صياغة نظرية العامل، وبيان أن الفاعلية علة غائية للمتكلم من رفع الفاعل، وأنها لذلك فاعلة بواسطته، إذ هي فاعلة في فاعلية الفاعل.

منهجه في أستاذية البلاغة

بعد أن عمل الأستاذ محمد عرفة في كلية الشريعة انتقل إلى كلية اللغة العربية فدرس الفلسفة، ثم اختار في تخصص الأستاذية تدريس الأدب والبلاغة. ويروي الدكتور محمد رجب البيومي ١٩٢٣- ٢٠١١ أن الشيخ عرفة استن سنة جديدة في تدريس البلاغة في هذا المستوى المتقدم من الدارسين، ففرض على طلاب الدراسات العليا دراسة مستوعبة لكتب التراث النقدي، لم تكن مما درسه الأزهر من قبل، إذ قرر أن يتخصص كل طالب في دراسة أمثال: قدامة، وأبي هلال، وابن طباطبا، وابن سنان الخفاجي، والباقلاني، والآمدي، والجرجاني قرابة عام، ليعد بحثا مبدئيا يتعهده الشيخ في كل خطوة من خطوات تكوينه، حتى إذا استوى على سوقه شذبه وهذبه، ودفع به إلى مجلة «الأزهر» لينشر على حلقات.

 

وقد كان الأزهر منذ عهد الإمام محمد عبده يبدأ زمنيا بكتب المدرسة السكاكية، فيدرس في البلاغة آثار السعد التفتازاني، والسيد الجرجاني، والخطيب القزويني، وما يدور حولها من الحواشي والشروح، حتى يرتقي في السنوات الخاتمة إلى كتابي عبد القادر الجرجاني، وعندهما يقف، فجاء الشيخ محمد عرفة وارتفع بالسلسلة إلى عهد الجاحظ صاحب أول كتاب في «البيان والتبيين». ولم يقف اهتمام الشيخ محمد عرفة بعلوم البلاغة عند هذا المنحى التدريسي الذكي، والأستاذية الواعية، وإنما كانت له بحوثه البلاغية التي نشرها بإمضاء «م.ع» في مجلة «الأزهر» عن التجريد والتشبيه، والذكر والحذف (المجلد الرابع والعشرين لسنة 1952).

في مجال الحديث عن بعض الصعوبات الحقيقية في تعلم النحو، أخذ الأستاذ محمد عرفة على عاتقه أن يضع كتابا مدرسيا لصغار التلاميذ في المدارس والمعاهد، يكشف عن سر العربية، ويقرب لغة الضاد من طبيعة المتكلمين

مواجهته مع كتاب الأستاذ إبراهيم مصطفى

كان الأستاذ محمد عرفة أشهر مَنْ تصدوا لمناقشة أفكار الأستاذ إبراهيم مصطفى ١٨٨٨- ١٩٦٢ في كتابه «إحياء النحو»، وكان في ذلك الوقت مدرسًا في كلية اللغة العربية، على حين كان الأستاذ إبراهيم مصطفى مدرسًا في كلية الآداب، وقد ألف الأستاذ محمد عرفة في الرد على الأستاذ ابراهيم مصطفى كتابًا بعنوان «النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة»، وأعلن في كتابه أن هذا القديم الذي يريد الأستاذ إبراهيم مصطفى هدمه هو تراث علمي غال تجب المحافظة عليه، والعناية به، وعدم التفريط فيه. وقد تميز الشيخ عرفة في عرضه لآرائه بقوة الحجة والبرهان، وسداد الرأي، وقد ساعده على هذا ما كان يتمتع به من علم غزير واسع بعلوم اللغة، وتاريخ هذه العلوم، كما تميز بالدأب في متابعة القضايا العلمية التي تصدى لها، ولهذا لم يكن من الصعب عليه أن يتم تأليف مثل هذا الكتاب الكبير القيم في الرد على الأفكار التي تضمنها كتاب «إحياء النحو».

 

وقد نجح محمد عرفة في معارضة أفكار إبراهيم مصطفى معارضة علمية قاطعة، وقد بدا في معارضته هذه ملمًا بما لم يتحدث عنه إبراهيم مصطفى في كتابه،كما بدا أن ما وصل إليه إبراهيم مصطفى من نتائج لا يمثل إلا بدايات على طريق البحث النحوي الذي مارسه محمد عرفة وتمرس به، مثبتًا أن هذه النتائج لا ترقى وحدها إلى أن تكون بديلًا لقواعد النحو المستقرة. وقد كان محمد عرفة من الشجاعة، بحيث إنه لم يتهيب أن يقف في مواجهة أستاذين لهما اسمان كبيران في المحيط الجامعي والعلمي وهما: إبراهيم مصطفى وطه حسين، وأن يصور المسئولية في إحياء النحو مسئولية الجامعة المصرية لا مسئولية شخص أو أكثر.

معركة إحياء النحو

أوجز الدكتور محمد رجب البيومي جوانب المعركة التي دارت بين القطبين، ملخصا آراء الأستاذ إبراهيم مصطفى التي نقضها الأستاذ محمد عرفة في هذه الأمور الأربعة، وقد لخصها الشيخ عرفة في كتاب «النحو والنحاة»:

– نقد النحويين في قصرهم مباحث النحو على الإعراب والبناء، دون أن يبحثوا خصائص الكلام من تقديم وتأخير، ونفي واستفهام، وإثبات وتوكيد.

– الرد على النحاة في زعمهم أن الإعراب أثر لفظي لا معنوي.

– نقد النحاة في زعمهم أن الحركات اجتلبها العامل، وإثبات أن المتكلم هو الذي أحدثها.

– إثبات أن التنوين علم على التنكير، فلك في كل علم ألا تنونه!

 

وقد لخص الأستاذ محمد عرفة موقفه من آراء الأستاذ إبراهيم مصطفى بادئًا من رأيه في تعريف النحو على نحو يقصره على الإعراب، وقال إنه يرفض هذا التعريف، ويراه قاصرا عن أن يدل على حقيقة النحو، ويوضح ماهيته، كما فعل سائر النحاة، وسرعان ما أورد تعاريف النحاة الشاملة الكاملة، وأورد تعريفا ذكره الأشموني في شرحه لألفية ابن مالك، وشرحه وبينه الصبان في حاشيته على الأشموني، وقال إنه اختار هذا التعريف لأن الأستاذ إبراهيم مصطفى عند ذكره هذا التعريف الفاسد عزاه لكتاب التعريفات، وقال انظر الصبان على شرح الأشموني. بينما قال الأشموني، عند (شرحه) قول ابن مالك: «مقاصد النحو بها محوية»: «النحو هو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها».

 

وبعد أن أورد الأستاذ محمد عرفة هذا التعريف بدأ يتساءل في قوة: «أهذا التعريف مقصور على أحوال أواخر الكلم من إعراب وبناء، أم هو عام لكل قوانين تأليف الكلام المستنبطة من كلام العرب بكل ما تدل عليه كلمة العموم، فكل قانون مستنبط من استقراء كلام العرب، ويُتعرف منه أحكام أجزائه التي ائتلف منها، فهو من علم النحو، فإذا استقرأنا كلام العرب ووجدناها تؤكد بأنَّ ووجدناها تكسر همزتها بعد القول، كقوله: قال إني عبد الله، أو كانت في محل حال، كزرته وإني آمله، أو كانت بعد فعل علق عن العمل باللازم كقولنا: اعلم إنه لحكيم، كانت هذه القوانين من علم النحو، وكانت موصلة إلى معرفة أحكام أجزائه، وكان لنا أن نستعملها في كلامنا إذا أردنا أن نتصرف تصرفهم في القول، وكان لنا أن نفهم بمعونتها كلامهم وكلام القرآن الذي نزل بلغتهم».

كان الشيخ محمد عرفة ينادي بأن يقتصر في التعليم الابتدائي على الاستكثار من المطالعة ودروس المحفوظات، ومثل ذلك في التعليم الثانوي مع إضافة قواعد اللغة بالقدر الضروري

وقد نبه الأستاذ محمد عرفة إلى أنه «كان يجب على الأستاذ إبراهيم مصطفى ألا يقتصر على النظر في تعريف واحد، وأن ينظر في تعاريف النحاة المختلفة، وأن يتثبت كل التثبت ليكون حكمه أقرب إلى الإنصاف، وأبعد عن الجور والإثم، وكان عليه إذ نظر في حاشية الصبان على الأشموني أن ينظر إلى هذا التعريف في شرح الأشموني، وهو منه قريب، فقد ذكر الأشموني وشرحه الصبان».

تفسيره الذكي لحماسه في كتابه النحو والنحاة

وقد كتب الأستاذ محمد عرفة في مقدمة كتابه «النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة» يصف شعوره تجاه كتاب «إحياء النحو»: «قرأت كتاب ـ إحياء النحو ـ فعرفت منه وأنكرت، وما أنكرت أكثر مما عرفت، فقد أنكرت منه أنه نحل النحاة مذاهب لم يقولوها، ونقدها، وأبان خطلها، فصور النحاة لقارئي كتابه قوما بلها أو ممرورين يقولون ما لا يُعقل، ويفهمون ما لا يُفهم، وأنكرت منه أنه انتحل مذاهبهم، وهجاهم إذ لم يصلوا إلى ما وصل إليه، أي إلى مذاهبهم، وأنكرت منه أنه قعّد قواعد في العربية لو أخذ الناس بها لغيرت من روح العربية، ولأفضي ذلك إلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله على غير وجههما». «وأنكرت منه أنه عمم في الطعن ولم يخصص، حتى أدخل سيبويه وكتابه، وهذا يصرف المتعلمين عن هذه المناهل العذبة، ويصدهم عن هذا الخير الذي ينمي عقولهم، ويصقل ألسنتهم، ويفضي بهم إلى سر العربية».

 

كذلك فقد صور الأستاذ محمد عرفة أسلوبه هو نفسه في تأليف كتابه هذا على النحو الذي صدر به تصويرًا جميلا معترفا بطابع الحدة الذي فرض نفسه عليه في البداية: «لا أكتم القارئ أنني كتبت هذا النقد مرتين، فقد كتبته أولًا بعد أن قرأت الكتاب بإمعان وموازنة، فرأيت المؤلف يبصر النائي البعيد، ويتجاهل الداني القريب، ويدرك الخفي المستور، ولا يدرك الظاهر المكشوف، وينقل أعجاز نصوص ليستشهد بها على ما رآه، ولو نقلها كلها صدورها وأعجازها لدلت على نقيض ما رآه، فآمنت أنه لم يُؤت من جهل، وأنه مدرك مذاهب النحاة على ما هي عليه من حق وسمو، وإنما شوهها ومسخها عن علم، ونسب للنحاة التقصير عن علم، وانتحل مذاهبهم عن علم، وحاربهم بها عن علم بأنها أسلحتهم، وأفسد ما أفسد من قواعد اللغة عن علم وعن قصد، وآمنت أن الدكتور طه حسين حينما أثني على الكتاب كان متآمرًا مع المؤلف على إخفاء الحق، وستر الواقع، للطعن في ميراث السلف، والإعلاء من شأن تفكيرهم الحديث».

 

«آمنت بهذا وذاك، فكتبت الكتاب بهذه العقيدة، فقسوت عليهما كل القسوة، واشتددت عليهما كل الشدة، ووقفت مواقف عدة، أبين هذا ومبلغ صاحبه من الأمانة في العلم، وخطر هذه الطريقة على التفكير، وعلى المتعلمين، وطالما وقفت حائرًا لا أدري من أي حاليهما أعجب؟ أمن جرأتهما على ستر مذاهب النحاة وهي لا خفية، ولا مستورة، أم من جرأتهما على انتحال هذه المذاهب، والتزين بها، وخدعة الناس عن هذه الرواية التمثيلية، وإيهامهم أنها الواقع لا ريب فيه؟». وقد تضمن كتاب الأستاذ محمد عرفة فصلا بديعا ممتعا تحت عنوان «استخدام المنطق الاستقرائي في تعريف معنى التنوين»، عارض فيه قول الأستاذ إبراهيم مصطفى بأن التنوين يقتصر على حالات التنكير، وذكر في بدايته أنه يصحب القارئ في رحلة فكرية يتتبع فيها مراحل الاستنباط ليعرف معنى التنوين، ولأي غرض يوجد. وقد تدرج الشيخ عرفة في مراحل البحث مرحلة بعد أخرى مرحلة: مرحلة الملاحظة، فمرحلة الفروض، ثم امتحن الفرض بما عنّ له من الملاحظات، واهتدى إلى النتيجة القائلة بأن التنوين للتعريف والتنكير معا، وليس للثاني وحده، كما قرر الأستاذ إبراهيم مصطفى.

مذهبه في تعليم النحو

وفي مجال الحديث عن بعض الصعوبات الحقيقية في تعلم النحو، أخذ الأستاذ محمد عرفة على عاتقه (حين رد على الأستاذ إبراهيم مصطفى) أن يضع كتابا مدرسيا لصغار التلاميذ في المدارس والمعاهد، يكشف عن سر العربية، ويقرب لغة الضاد من طبيعة المتكلمين، بأسلوب سهل يجد مكانه من الارتياح لدى المدرسين والطلاب، ولكن الأستاذ محمد عرفة سرعان ما عدل إلى نهج آخر من الإصلاح وأظهر مؤلفه الرائع «اللغة العربية ولماذا أخفقنا في تعليمها»، وكان في أصله الأول مقالات عشرا، نشرت تباعا بمجلة «الرسالة»، ولم تقتصر في موضوعها على طبيعة المعالجة لمسائل النحو، بل امتدت إلى فروع اللغة العربية جميعها، حيث دار الحديث في مجال كلي يرسم النهج العام لطبيعة اللغة، وجدوي التدريس في فروعها، إذا ما نهج هذا التدريس الوجهة الصحيحة. وقد تحدث عن الأسلوب السائد في التدريس، ومدى صلاحيته، وعن الأسباب الموجبة للاحتفاظ بلغة القرآن، وعن وسائل الإخفاق في تعليم هذه اللغة، ومن أهمها تكلم الأساتذة باللغة العامية حتى في شرح مواد اللغة نفسها!!

 

وتتالت هذه الفصول لتوضح رأي الشيخ محمد عرفة الذي ذهب فيه إلى أن اللغة ملكة لا تُنال إلا بالمران الدائم، والتكرار الملح، ومن ثم فإن استظهار القواعد دون المران على قراءة النصوص الأدبية لا يجدي فتيلا، في تكوين هذه الملكة، «وإذا أراد الأساتذة أن يوجدوا هذه الملكة فلا بد من الإكثار من الشواهد المناسبة، وأن يحرصوا على تهيئة فصول سهلة لكبار الأدباء تكون زادا للطلاب، على أن تكون مشوقة، تدفع إلى الاستيعاب في شغف، حين تنحو منحى الشعر السلس، أو القصة الطريفة، أو الخطبة المؤثرة»، وقد عقد الشيخ عرفة موازنة بين طلاب يأخذون اللغة من الأساليب الصحيحة، وبين آخرين يأخذونها من القواعد ليثبت فائدة الأساليب: «وإذا لم يكن من المستطاع خلق بيئة فصيحة في المدرسة، فلنخلق بيئة تحاول الابتعاد عن المبتذل من ألفاظ العامية، وتميل إلى استعمال الألفاظ المشتركة بين العامية والعربية، وما أكثرها، بل ما أعظم قدرتها على استيعاب الخواطر، لو قدر لذوي الأمر أن يجمعوها لتكون في متناول الطلاب».

الأصول التربوية لمذهبه

وفي أسلوب شبيه بأساليب المصلحين الاجتماعيين حين يستحثون قومهم على الأخذ بما ينادون به من تجديد فكري وعملي، فإن الشيخ محمد عرفة، بعد أن استوفى الحديث عن جدوى النصوص الصحيحة في استقامة الألسنة يقول: «يا قوم! لقد جربتم طريقة القواعد في تعلم اللغة العربية ألف مرة، وفي كل مرة تخفقون، فجربوا مرة واحدة طريقة الحفظ والتكرار، وأنا كفيل لكم أن تحمدوا هذه التجربة». هكذا كان الشيخ محمد عرفة ينادي بأن يقتصر في التعليم الابتدائي على الاستكثار من المطالعة ودروس المحفوظات، ومثل ذلك في التعليم الثانوي مع إضافة قواعد اللغة بالقدر الضروري، وقد أشار إلى طريقة السلف في الإكثار من الشواهد، والاهتمام بما تتضمن من صور وتعبير وفكر، وقد لاقى كتاب الأستاذ محمد عرفة عن تعليم اللغة ارتياحا كبيرا من العلماء، فأثنت عليه الأقلام في الصحف الأدبية، وتناوله العلامة الكبير الشيخ عبد القادر المغربي، عضو مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق، بالتلخيص في مجلة المجمع العربي بدمشق.

تبني الشيخ المراغي لآرائه

من الجدير بالذكر أن الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي كان هو الذي تولى تصدير كتاب «النحو والنحاة»، وكتب المؤلف أن هذا التصدير «تقديم الكتاب لعلم من أعلام العلم والبيان»، إذ أراد الشيخ المراغي ألا يفصح عن نفسه كيلا يدخل طرفا رابعا في النقاش، على نحو ما أجاز الدكتور طه حسين لنفسه أن يكون طرفا ثالثا، حيث قال في تقديم إحياء النحو: «إنه كان يراجع مع الأستاذ إبراهيم مصطفى في مسائله، ويتفاهم معه مباحثه، فهو ليس جديدا عنده».

 

وفي هذا الصدد قال الأستاذ الأكبر المراغي: «لم يظهر مثال واضح على أن العلوم يسقي بعضها بعضا، ويعين بعضها على بعض، كما ظهر لي في هذا الكتاب، فنحن في علم العربية، وفي علم النحو خاصة، فما دخل الفلسفة؟ وإنها لأبعد الأمور غناء في هذا الموضع، ولكن لشد ما أغنت وأجدت حين استوحاها (الضمير يعود على الشيخ محمد عرفة)، في مسألة العامل ورد الاعتراض عليه».

أخذه بمشورة الشيخ المراغي

وقد روى الأستاذ الشيخ محمد عرفة أنه استعان بمشورة الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الذي نصحه بما أخذ به من تقليل الهجوم على الأشخاص، وتركيز النقد على نقد الأفكار: «… كتبت النقد وأنا منطو عل هذه العقيدة، فجاء لاذعًا شديدًا، …، ثم أطلعت صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي على شيء من التدبير في هذا الكتاب، فغير رأيي في هذا التدبير وقال: «انقد الفكرة، ودع صاحب الفكرة، وليكن نقدك عفيف اللفظ، تقي الأسلوب، وإذا كان الناس قد اعتادوا سماع الهجر والفحش في المساجلات العلمية، فما أحراك أن تسمع الناس نوعًا آخر من النقد، تتجلى فيه نزاهة العلماء عن ساقط القول، ويتجلى فيه صدق اللهجة، وقوة الحجة، وعفة الأسلوب، والعدل في الحكم، والإنصاف في الموازنة، وبدل أن تتصور مخالفيك كما تصورتهم يحسن أن تتصورهم رفقة في سفر انقطع بهم الطريق، واعتسفوا طرقًا مهلكة، فرأيتهم وأنت على الجادة يتخبطون في ليل دامس، وصحراء مهلكة، فيجب أن يأخذك من الشفقة والرحمة عليهم ما يأخذ هذا المسافر الذي على الطريق من الرحمة والشفقة على هؤلاء المعتسفين».

 

«وما سمعت هذه النصائح الغالية حتى شرح الله صدري لما قال، فرجعت إلى الكتاب، فكتبته مرة ثانية، وأسقطت منه هذه المواقف التي كنت أقفها من صاحب الفكرة، وجعلت هدفي الفكرة». «فما كان في الكتاب من حلم وأدب في المناظرة، فإلى الأستاذ الأكبر مرجعه، وإلى هذه النصيحة مرده، وما كان فيه من نبو واعتساف، فمن نزوات النفس، وجماح الطبع، وللطبع جموح، وللنفس نزوات».

مؤلفاته:

– «النحو والنحاة في الأزهر والجامعة».

– «اللغة العربية.. لماذا أخفقنا في تعليمها وكيف نعلمها».

– «نقض مطاعن في القرآن الكريم».

– «السر في انتشار الإسلام».

– «رسالة الأزهر في القرن العشرين».

– «الإسلام أم الشيوعية».

وفاته

توفي الشيخ محمد عرفة بعد حياة حافلة بالعلم والتعليم بالقاهرة سنة 1973.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.