شعار قسم مدونات

العيش ببساطة كفلسفة للحياة

كثيرا ما يتكرر على مسامعنا مصطلح "الحياة البسطية" لكننا قد نجهل كنهه ومعناه الحقيقي فمثلا هناك فئة تعتقد أن الحياة البسيطة تعني أن تعيش محروما من أبسط الحاجيات الأساسية وتعتزل الحياة والناس وتترهبن في قمة جبل منعزلة عن العالم، أو أن تغفل مشاعرك وتنسى نفسك وتنصهر في الآخرين وتكون إمعة تنفذ فقط ما يطلبونه منك وتمشي على نفس خطاهم دون أي استفسار عن كل صغيرة وكبيرة تخصك وحدك وتجعل أحلامك وأهدافك في طي النسيان فقط لأنها تخالف أحلامهم هم، لا أبدا هذا لا يمت للبساطة بصلة وإنما أكبر تشويه لها بحيث إذا ما قمنا بالتنقيب عن المعنى العميق لهذا الكلمة السامية – بسيطة – نجد أنها بخلاف ذلك تماما وأنها الطريق السوي للعيش وفقا لما تهواه فطرتك السليمة.

 

فنمط الحياة البسيط هو من أهم مطالب كبار العلماء والفلاسفة الذين أخذوا في البحث عن عيش حياة مخالفة للمألوف وتحقق السعادة الحقة أمثال الزعيم والفيلسوف الهندي "المهاتما غاندي " الذي ضرب لنا أكبر مثال في عيش الحياة بناء على البساطة وعدم التعقيد ولعل هذا ما جعل منه معلم روحي عظيم وجعل الأجيال المتوالية تقتدي به لسنوات وتثني عن إنجازاته في الحياة بعيدا عن التعقيد، وعلاوة على ذلك نجد أبو الفلسفة " سقراط " ذلك الذي لم يهتم أبدا بالمظهر الخارجي واتخذ من البساطة طريقا له بحيث عرف عنه أنه لم يبدي طوال حياته اهتماما بما هو زائل وفان أي ما هو مادي محض بالأساس وهو من قال عبارته المشهورة "تكلم حتى أراك" دليل على أن الإنسان يجب أن يكون عظيما من الداخل وبسيطا زاهدا من الخارج .

 

سألوا ذات مرة أحد أثرياء طوكيو وهو رجل أعمال حول رفضه عيش حياة الأغنياء مثله لأنه لم يكن يقطن في حي راقي ولا في مسكن فسيح ولا يشتري من الملابس إلا ما يفي بالغرض فأجابهم أن سعادته تكمن في الإنجاز وجعل مدينته وبلده في المراتب الأولى على مستوى التقدم والازدهار والمضي بها قدما في ركب الحضارة وأنه يجد المسائل الاخرى دون ذلك تافهة وغير ضرورية أبدا ولا ينبغي إعطائها قيمة أكثر مما يلزم.

 

وأيضا لنا في السلف الصالح خير مثال فالإمام أحمد ابن حنبل كان من أكثر الزاهدين في الدنيا بات يلبس نفس الثوب لفترة طويلة ويبيت أغلب لياليه في المسجد وهو كان كنزا من الأفكار والمعلومات وفي نفس السياق نجد في ديننا الحنيف دعوى صريحة إلى الزهد والبساطة ؛ فلا غرو أن الإسلام دين الوسطية والاعتدال وأن الإسراف في الأمور منبوذ شرعا وأن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد جعل من الحياة البسيطة القانعة منهجا له وأن الرضى والقناعة كنز لا يفني ففي حديث شريف يقول عليه الصلاة والسلام "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِندَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا " .

فضلا عن أن لنا في الصحابة الكرام كذلك خير أسوة فقد كانوا متميزين بإيمانهم وذكائهم الحاذق وعبقريتهم وليس بالتكلف ولا بالزيادة المبالغ فيها في أمور جد عادية ولا تستحق فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لابنه ناصحا أن يضع حدا لشهواته " أكلما اشتهيت شيئا اشتريت " في نفس المنحى هناك مقولة مقول جميلة كنت قد قرأتها منذ زمن ومفادها أن لا تجعل ثيابك أغلى ما فيك حتى لا تكون يوما أرخص مما ترتدي، فعلا فمكانتنا وأهميتنا باتت تختصر في القيم المادية والتنافس حول من يستهلك أكثر في غياب تام عن السؤال الحقيقي الذي هو من السعيد حقا في هذه الحياة ؟

 

إن البساطة هي موقف عقلي يتماشى معا تصرفات وسلوكيات عملية في الحياة أي أن تتخذ قرارا وتصرخ في وجه هذه الموجة العارمة التي تهلك الإنسان وتنهش ثناياه الروحية والجسدية فتغدو مجرد تابع للقطيع للأسف مع أن لا شيء يستحق أبدا ويتطلب فقط قرار حاسم وأن تنصت لضميرك وروحك وتعي جيدا حقيقة الأمر ومن ثم تعيش بعيدا عن وهم وشره الاستهلاك المبالغ فيه، وكذا تحيا دون تعقيدات تنغص عليك متعة العيش ودون خوف او قلق من نظرة الناس حول كمية وقيمة إنفاقك.

 

في فيلم وثائقي عرض على قناة الجزيرة الوثائقية قبل مدة تحت عنوان – الحياة البسيطة – وهو فيلم جد مميز ويلقي الكثير من الدروس المفيدة حول النمط المثالي للحياة البسيطة، ففيه يخوض مغامرة البحث عن كيفية العيش وفق البساطة السيد سدات الذي أرهقته ساعات العمل حتى في بيته فلا وقت لأسرته خاصة ابنته التي هي محتاجة إليه بشدة وإلى قربه منها، فقد كان يقضي جل وقته في العمل بل وعمل كثير وكسب أكثر وشراء واستهلاك ما لا يمكن تعداده من الأشياء التي قد تكون ضرورية وقد تكون مجرد حاجيات مبالغ فيها ولا تستحق تضحيته تلك بوقته الثمين من أجل مال زائد هو في غنى عنه وتأمين الرفاهية والحياة المثالية التي يتوق إليها الكثيرين غير مدركين من هول ما يقومون به،

حتى تبين للسيد سدات أن الوضع خطير وغير معقول وحاول أن يستدرك الأمر عندما لفت انتباهه الوقت الذي يتسرب منه دون أن يخصص منه لا لابنته ولا لنفسه وذلك كله بغية توفير كل ما تحتاجه عائلته من مستلزمات وحاجيات …لذا شد الرحال في البحث عن حقيقة وضرورة تلك الأشياء وتسائل هل هي فعلا تزيده شيئا؟ أم أنها فقط من باب الكماليات التي يلهث ورائها البشر من جميع بقاع الأرض من أجل السير طبقا لهوى المجتمع ورضاه، وبعد بحث وتنقيب وتقصي للحقائق قرر أن يتخلص بكل ما هو زائد عن الحاجة وبصدر رحب ويقلص عدد ساعات عمله ويعطي من وقته لأسرته الصغيرة وكذا يعيش حياة سعيدة متمثلة في صحة جيدة عن طريق التخلص من الكيماويات وكل ما هو اصطناعي وضار للصحة واستبداله بنمط طبيعي والاقتصار على اقتناء فقط ما يلزم من كل شيء، والتخلص من الطمع وهوس جني الأموال الذي جعل الإنسان كالترس في آلة مهولة يعمل دون انقطاع والخاسر الوحيد في المعادلة هي نفسه وحياته التي لم يعشها كما ينبغي وإنفاقها في ما لا يسمن ولا يغني من جوع في غالب الأحيان.

 

ربما أغلبيتنا الساحقة لم تعي بعد أن عليها الاشتغال فيما هو باق وفيما يعود بالنفع على الفرد أي العمل على النفس والسمو بها بتنميتها والرفع بها عن سفاسف الأمور المتمثلة في الأشياء المادية التي يروج لها الإعلام بكل ما اوتي من قوة، إنها حياة واحدة وعلينا السعي لجعلها مفيدة ومنتجة بحيث نستثمر في عائلاتنا ونعطي لهم الوقت اللازم ؛ فابنك يحتاج وصاياك وإرشاداتك وأن تكون له قدوة يقتدي بها في حياته ومثال يحتذى به ولا يحتاج لمزيد من الالعاب الملونة والمتعددة الأحجام ولا إلى ملء دولاب ملابسه بآخر صيحات الموضة من الثياب وأيضا زوجتك، أمك، أختك… وأصدقائك كلهم يتوقون إلى لمسة حانية منك ونصيحة تنقذهم من شتاتهم الفكري الذي يعيشونه وإلى دعم معنوي يطفئ جمر الغصة التي تحرق قلوبهم ؛ فإذن لما علينا ان نصم أذاننا عن الحقيقة ونمضي في لعبة كسب رضا الآخرين والظهور دائما بمنظر جديد ومغاير للمألوف فقط من أجل إشباع الأنا والعيش تحت رحمة الناس الذين تريدهم أن يصفقوا لك عن كل سيارة جديدة وعن لباس مواتي لذاك الشخص المشهور المسمي نفسه "مؤثر" على مواقع التواصل الاجتماعي لا لشيء فقط لأنه بارع في التصوير وتنويع الملابس وأماكن السفر وهو إن صح القول فعلا مؤثر ولكن بشكل سلبي محض لأنه يسلب الإنسان راحته النفسية وحياته البسيطة التي عليه أن يعيشها رفقة ذاته أولا وإعطائها حق قدرها ورفقة أحبائه ومجتمعه فيخدمه جيدا ويكون خير فاعل فيه .

 

متى علينا أن نعي أن نمط الحياة البسيطة هو الأصل والرجوع إلى الأصل فضيلة وفضيلة عظمى وأن البساطة هي ضرورة ملحة وقصوى تفرضها طبيعة تركيبتنا الروحية إذن يجب علينا أن نحاول جاهدين الخروج من اللعبة بأقل الخسائر وإلا ستمضي حياتنا دون أي إنجاز يذكر ودون بصمة خاصة توضع على جبين العالم؟ متى نستوعب أننا كيانات خاصة وكائنات فريدة من نوعها وبصمة لا تتكرر كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه " وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر " وأنك إنسان لك مشاعرك وطموحاتك وأحلامك الخاصة بك وأنك مكون من روح وعقل وجسد وأن عليك أن تعطي حق كل منهم وفق ما يلزم، فالروح لا تجد راحتها سوى بالإيمان والتقرب من الله عز وجل وأداء العبادات كما يجب فيضحى ضميرك مرتاحا وروحك تحلق عاليا وتشرق بنور الله، ثم عليك حث العقل بالعمل والقراءة المستمرة في شتى العلوم وتقطف من كل بستان زهرة ثم تحبس لك مكانا في عداد المتميزين والمفكرين الذين يسعون لتغيير واقعهم نحو الأفضل ويتركون أثرا يشكرون عليه فيما بعد، والتدبر في ملكوت الله سبحانه وفي كتابه المفتوح حتى تستحضر عظمة الخالق وأخيرا أن تلبي رغبات جسدك وفق مبدأ البساطة دون تكلف ولا إفراط وتسمو به عن درن الوحل الذي يصر العالم على دفننا فيه والتصاقنا به .

 

إن النجاحات العظيمة لا تأتي من تلقاء نفسها بل وجب التحرر من عبودية المجتمع ونظرتهم إليك والعيش طبقا لما يمليه عليك عقلك الذي يزن الأمور بشكل سوي فلا ضير إن قررت فجأة أن تعطي لنفسك وذويك بعض الوقت وتعيش حياة بسيطة تحيا فيها هانئ البال ومرتاح الحال وتقنع بما لديك من موارد، وتعطي لنفسك الحرية التي تتوق إليها منذ زمن صدقني، إننا نعيش فقط حياة واحدة لا غير مدة مكوثنا فيه جد محدودة فلما لا نستغلها أحسن استغلال وننهض بأنفسنا ونشمر على سواعدنا حتى نكون خير مثال لأقاربنا ولمجتمعنا الذي سنفيده حقا بما هو باق وخالد وليس بما بمظاهر واهية ومناظر خادعة.

blogs - قرية

أرى أن افضل طريقة للدخول إلى الحياة البسيطة والاستمتاع بها هي أن توجه بوصلة حياتك لله سبحانه وتعالى حتى يعينك اولا على الصبر في البداية لأنك ربما لن تطيق بسرعة الحياة الجديدة ولن تتمكن من التلذذ بحلاوتها إلا بعد أن تمضي فيها فترة لا بأس بها، ثم تحاول ما أمكن ان ترسخ في ذهنك حقيقة أن الدنيا فانية ولا تساوي عند الله جناح بعوضة فتصغرها في نفسك ولا تجعلها أكبر طموحاتك ولا أعظم أمانيك وتعمل للحياة الأبدية الأخرى التي تنتظرنا والتي نتطلع أن نحيا فيها سعداء وفرحين بما آتانا الله من فضله، ثم تحدد أولوياتك وعلى منوال السيد سدات في الفيلم الوثائقي وتقوم بالتخلص بكل ما هو زائد عن اللزوم فتبدأ بخزانة ملابسك وبيتك وتتبرع بما لا تحتاجه  فعلا وتبقي فقط ما يلزمك من أغراض وثياب وتعيش وفق نمط طبيعي وتحافظ على جسمك وتعتني به كما يجب لأنه أمانة ولك حق عليه فلا تتناول إلا ما هو صحي ومفيد غير ضار به وتعطي لعائلتك الوقت الكافي وتستمتع بكل لحظة تمضيها معها .

 

لماذا التكلف يا صديقي الحياة سهلة بسيطة لما نسعى لتعقيدها بأمور لا قيمة ولا أهمية لها في حياتنا الحقيقية وليست الحياة المزيفة التي ما ننفك نزينها ونحرق أنفسنا في ظل تجميلها ما أمكن فقط في سبيل أن يبدو منظرنا مقبولا لدى الآخرين على حساب صحتنا وذواتنا وهي لا فائدة منها سوى أنها تساهم في الرفع من هرمون الكورتيزول في أجسامنا، لذا علينا أن نبذل أقصى ما في جعبتنا من جهد لنحيا حياة بسيطة آمنة ومطمئنة وأن نرضى ونقنع بما في أيدينا ولا نطمع في ما يملكه الآخر مدركين تمام الإدراك أن كل واحد منا رزقه الله تعالى برزق ونعم معينة ومقسمة فيما بيننا مصدقا لقوله تعالى "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" إذن فلا يحزن أي منا ولا يبتأس وليحمد الله ويشكره كما ينبغي لوجهه سبحانه ولنحيا بسطاء .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.