الفنان راغب عياد (1892 ـ 1982) هو آخر الرواد الستة للفن المصري الحديث (مع محمود مختار، ومحمود سعيد، ومحمد ناجي، وأحمد صبري، ويوسف كامل)، وهم الفنانون الذين يبدأون مجدهم ومجد الفن المصري الحديث بأولهم وأكبرهم الفنان محمود مختار الذي كان بمثابة معجزة عبقرية رزق الله بها الفنون المصرية بداية مبهرة وموفقة واكبت عصر النهضة المصرية التي بلغت قمتها بفضل ثورة ١٩١٩ ومقدماتها ومعقباتها.
بدأ هؤلاء الستة وأقرانهم حياتهم الفنية بعد افتتاح مدرسة الفنون الجميلة المصرية، وما واكبها من بيئة مواتية للفنون الجميلة، بكل مقومات بيئة الفن التي عرفها العالم المتقدم وبما كان للأستاذ الامام الشيخ محمد عبده قبيل وفاته من فضل في التشجيع على ها وعلى وجودها والإفادة منها وتوظيفها، وكان من هؤلاء الفنانين الستة أربعة ولدوا في عامين متتاليين [مع تفاوت أعمارهم إلى حد مذهل: مختار٤٣ عاما، وراغب عياد ٩٠ عاما ]و تزاملوا معا في الدراسة بمدرسة الفنون الجميلة، ودرسوا في الخارج بطرق مختلفة: محمود مختار (1891 ـ 1934)، ويوسف كامل (1891 ـ 1971)، ومحمد حسن (1892 ـ 1961) راغب عياد (1892 ـ 1982). ورجلان من رجال القانون عملا بالقضاء والسلك الدبلوماسي : محمود سعيد (١٨٩٧- ١٩٦٤) ومحمد ناجي ( ١٨٨٨- ١٩٥٦.
ومما يجدر ذكره في الاستشهاد على انضباط موازيين التقدير في مصر حين تتولاها مجالس متخصصة أن أربعة من هؤلاء الستة عاشوا إلى عصر جوائز الدولة التقديرية ففازوا جميعا بهذه الجائزة في أربعة أعوام من أعوامها الخمسة الأولى وكان ترتيب فوزهم نفسه متسقا مع قيمتهم الفنية على نحو ما صورها النقاد وأساتذة الفن ومؤرخوه، ففاز الفنان محمود سعيد بالجائزة في العام الأول ١٩٥٨ (مع فوز الدكتور طه حسين بجائزة الآداب ) وفاز الفنان يوسف كامل بها في العام الثاني ١٩٥٩( مع فوز الأستاذ العقاد بجائزة الآداب ) وفاز الفنان محمد حسن بها في العام الثالث ١٩٦٠ (مع فوز الأستاذ توفيق الحكيم بجائزة الآداب ) أما الفنان راغب عياد ففاز بها في العام الخامس ١٩٦٢ بعد أن ذهبت الجائزة في العام الرابع إلى المهندس المعماري العبقري على لبيب جبر ١٨٩٨- ١٩٦٦.
راغب عياد إذاً هو آخر الرواد الستة شهرة وهو أطولهم عمرا، أو بعبارة معادة الترتيب هو أطولهم عمرا، وإن كان أقلهم شهرة، وقد أتاح لي الحظ أن ألقاه أكثر من مرة في سنوات عمره الأخيرة حيث وجدته ورأيته على نحو ما عاش عمره قبل ذلك هادئا سمحا واثقا عطوفا بسيطا مهيبا، وهو بتعريفنا الموسوعي المختصر: فنان تشكيلي أضاف إلى طول العمر طول مدى الإبداع، تميز الابداع معتمد على أصالة حقيقية / فضلا عن أنه كان من الطراز الفريد الذي جمع بين ممارسة الفن باقتدار في مجالات التصوير الزيتي، والزخرفة، وديكور المسرح، والرسم على الجدران كما تولى الاستاذية والإدارة المتحفية.
نشأته وتكوينه
ولد الفنان راغب عياد في 10 مارس 1892 لعائلة قبطية في حي الفجالة بالقاهرة، وتلقى تعليمه في المرحلة الابتدائية في مدرسة الفرير، ولهذا فانه كان يتقن اللغة الفرنسية من قبل أن يلتحق بمدرسة الفنون الجميلة في القاهرة، في أول أفواجها أي في السنة التي أنشأها الأمير يوسف كمال، سنة 1908. وبعد تخرجه في 1911، عمل مدرّساً للرسم في مدرسة الأقباط الكبرى الثانوية في القاهرة، وقد رتب أمور دراسته في إيطاليا (بالتمويل الذاتي) مع زميله يوسف كامل حيث اتفقا أن يعمل كل منهما كمدرّس لمدة سنة لكي يموّل نفقات الآخر المقيم في إيطاليا، وقام راغب عياد بعدة رحلات إلى فرنسا وإيطاليا بين عامي 1921 و1922 ولما علم الزعيم سعد زغلول باشا من أحد الزعماء المقربين منه وهو ويصا واصف باشا قصة اتفاق هذين الزميلين على التعاون في تمويل نفقات تعليمهما في الخارج قرر لهما البعثة على نفقة الدولة للدراسة في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في روما، وابُتعث معهما أيضا زميلهما الفنان محمد حسن، وفي إيطاليا حصل راغب عياد على ثلاثة دبلومات في فن التصوير الزيتي، والزخرفة، وفن الديكور المسرحي. وبعد حصوله على شهادته من قسم الديكور في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في روما سنة 1928، عاد إلى مصر في السنة التالية ١٩٢٩
بدأت علاقة راغب عياد الوثيقة بإيطاليا منذ ذلك الحين، وسافر راغب عياد إلى كثير من أنحاء إيطاليا وزار مدن فلورنسا وسيينا والبندقية كما أنه حضر البينالي الخامس عشر سنة 1926.. وكان هو نفسه أول من اقترح فكرة إنشاء الأكاديمية المصرية في روما على غرار الأكاديميات الأجنبية الأخرى المتمركزة في العاصمة الإيطالية. وفي عام 1936 تزوّج من الرسامة الإيطالية وأقام بالاشتراك معها العديد من المعارض، بعد عودته من بعثته عمل راغب عياد ما بين ١٩٣٠ و١٩٣٧ رئيساً لقسم الزخرفة في مدرسة الفنون التطبيقية في الجيزة ثم مديراّ وأستاذاً في قسم الدراسات الحرة في مدرسة الفنون الجميلة في القاهرة التي كانت تقدم دروساً مسائية للطلاب الذين يعملون خلال النهار وتولى إعادة تنظيم المتحف القبطي بالتعاون مع مؤسسه مرقص سميكة باشا في العام 1941. وعين من 1950 إلى 1955 مديراً لمتحف الفن المصري الحديث، خلفاً لزميله يوسف كامل. وأنشأ في فترة توليه هذا المنصب قسماً مخصصاً لأعمال النحات محمود مختار، وقد تم تدشين القسم سنة 1952.
أسلوبه الفني
سوف نلخص في حديثنا عن راغب عياد ما تعلمناه بالمباشرة والمناقشة وبالقراءة عن أربعة من أكبر نقادنا هم الأساتذة بدر الدين أبو غازي، ومحمد صدقي الجباخنجي، ومختار العطار، وصبحي الشاروني، يري أستاذنا الناقد مختار العطار أن أسلوب راغب عياد قد تبلور سنة 1937 واستقر على الصورة التي نعرفها حين أبدع لوحة «الدلوكة» المحفوظة في متحف الفن الحديث، وهي تمثل رقصة شعبية سودانية، وقد أصبح عياد منذ ذلك التاريخ رائد «التعبيرية المصرية» المختلفة عن الأوروبية بأنواعها، وقد تميز بالخطوط القوية المحددة، البعيدة عن النعومة المرفهة، والتفاصيل غير الضرورية في تصوير الحشود والتكوينات المعقدة التي اعتمد فيها على موسيقية الخطوط، وإيقاعها، وتشابكها، وهي تقاليد جمالية تتصل بالفن الإسلامي.
التأثر بيحيى الواسطي
لاحظ نقاد الفن صلة وثيقة بين إبداع راغب عياد والرسوم الشعبية من حيث حرية التعبير بحركة الأجسام والأيدي والأرجل، والتكوينات الروائية المزدحمة بالعناصر، بل إن أصول هذا الإبداع امتدت في بعض الجوانب إلى المنمنمات الإسلامية نفسها، حين يصور التجمعات البشرية بشكل عام، وجاءت اللوحات وكأنها تقليد مباشر لرسوم يحيي بن محمود الواسطي الرسام العراقي الشهير الذي أبدع منمنمات مقامات الحريري (المتوفى ١٢٢٠)، وأسس دعائم الاتجاه التعبيري البغدادي في الرسم والتلوين، وامتد تأثيره في تزويق المخطوطات في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية طوال قرنين من الزمان بعد وفاته، فرسوم الواسطي هي المصدر الحقيقي لكل من الرسوم الشعبية المصرية، والكثير من أسلوب راغب عياد.
ويظهر هذا الأثر بوضوح في لوحات «المرح الشعبي» (1930)، التي تصور الألعاب الشعبية، و«رقصة الخيل» (1953) زيت على قماش، محفوظة في متحف الفن الحديث، و«في العيد»، وهي لوحة شهيرة محفوظة في متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، صورها سنة 1938 لعائلة شعبية تتكدس فوق عربة كارو يجرها حمار، أما لوحة «الخبيز» فمن سلسلة العادات والتقاليد التي رسمها بالأحبار الملونة على الورق.
الحياة الشعبية والريفية
وهكذا ابتدع الفنان راغب عياد أسلوباً فلكلورياً خاصاً كان يميّزه عن باقي الفنانين من أبناء جيله إذ توجه طوال مسيرته الفنية إلى مشاهد من الحياة اليومية الشعبية والريفية، مثل السوق والعمل في الحقول والمقاهي الشعبية، بالإضافة إلى الممارسات التقليدية المترسخة في الثقافة المصرية، مثل "الزار" وهو رقص نوبي شعائري، أو "التحطيب"، وهي لعبة شعبية شائعة في الصعيد المصري على شكل قتال باستخدام العصي. وقد امتدت جذور أسلوبه إلى ما يعرف الآن بالفنون الشعبية، التي تصور قصص أبو زيد الهلالي، وعنترة وما إليها، وهي فنون تعتبر في حقيقتها امتدادا للهوية المحلية المتبلورة عبر التاريخ، والتي كانت سائدة قبل التأثيرات الأوروبية.
الملامح الفرعونية في فنه
ترجع جوانب أخري من إبداع راغب عياد إلى فترات زمنية أبعد من الفنون الإسلامية تقع في العصور المصرية القديمة، والرسوم الجدارية، والنحت البارز في المعابد والمقابر، ربما كانت لوحة «العمل في الحقل» المحفوظة في متحف الفن الحديث أوضح مثال لهذا التأِثير الطاغي للرسوم الفرعونية، إذ يتجلى في إهمال المنظور، والاهتمام بالزاوية الجانبية في رسم الأشخاص والحيوانات، تأثرت أعمال الفنان راغب عياد بعمق بفنون مصر القديمة حيث استلهم جمالية الأشكال في النقوش البارزة والرسوم الملوّنة على قبور ومعابد طيبة لكي يعيد اختراع النمط القديم في تركيب المشاهد السردية.
الاستلهام المخطط للبيئة
حين عمل الفنان راغب عياد مدرسا بعد تخرجه من الفنون الجميلة فإنه لم يكف عن الطواف بأحياء القاهرة الشعبية، متأبطا دفتر التخطيطات (الاسكتشات)، مسجلا بخطوط سريع حركات رواد المقاهي، وأولاد البلد في الموالد والأفراح، كما كان يراقب برسومه الخاطفة سلوك الباعة في الأسواق، وحياة الفلاحين وعائلاتهم وحيواناتهم والطيور، وكل ما يدور في قاع المدينة، يشكل كل ذلك في دفتر التخطيطات، ثم يعود بحصاده إلى المرسم حيث ينشئ التكوينات المفعمة بالجاذبية، المتمتعة بما يبثه فيها الإسقاط الفوري من حيوية. وهكذا استطاع راغب عياد من قبل بعثته إلى إيطاليا أن يتخلص من الموضوعات الأوروبية التي درج على رسمها بإشراف الأساتذة الأوروبيين.
عبر راغب عياد عن البيئة من حوله بعين طفل مصري نبيه، وتحدث بالخط واللون بلهجة دارجة، وبقلب مفتوح، وتعبير صادق نابع من القلب، قد يكون هو المقابل الموضوعي لكلمات المواويل الفولكلورية، وربما كان التوجه إلى قاع المجتمع هو الذي قاده كما يقول النقاد إلى الأسلوب التعبيري المتسم بالسخرية أحيانا، البعيد عن السفسطة والتعالي، والنزوع الأكاديمي ببروده وسكوته وجموده العاطفي. واستطاع منذ مرحلة مبكرة من ممارسة لفنه أن يخرج عن الإطار الأوروبي، وأن يستلهم بيته وتراثه، وفي أواخر مسيرته الفنية، اتجه أسلوبه تدريجياً نحو صفاء الخطوط ونحو الأشكال المختزلة. وامتدت مجالات رسومات راغب عياد إلى كثير من المجالات المشابهة، حيث رسم الفلاحين، والحيوانات، والأسواق الشعبية، وعادات الأفراح، والموالد. وتخصص أيضا لفترة طويلة في رسوم الكنائس القبطية، وعمل الأيقونات، وقضي فترات طويلة في الأديرة المنتشرة في الصحاري المصرية لتصويرها. ورسم أيضاً مشاهد دينية ومناظر خارجية للأديرة القبطية. أتقن الفنان راغب عياد فن الرسم التخطيطي وأنجز، إلى جانب لوحاته الزيتية، العديد من هذه الرسوم المجمّلة بالألوان المائية.
رسم السيدة مريم العذراء على هيئة فلاحة بسيطة
ولا شك في أن نجاحه العظيم يتمثل في اجتهاده بصدق، وموهبة فريدة، وإحساس عميق بتراثه، في البعد عن التبعية والتأثيرات الأوروبية، حتى أصبح بحق من بناة الهوية المصرية الحديثة في الفنون التشكيلية، وقد ساد الأسلوب التعبيري الواقعي أعمال الفنان راغب عياد، وظهر فيما أنجزه من سلسلة صور الأديرة والكنائس والرهبان، وبلغ من فرط واقعيته حد رسم السيدة مريم العذراء على هيئة فلاحة بسيطة تحمل المسيح الطفل في صحبة يوسف النجار، الذي يبدو بدوره شخصية عادية، وقد صورهم هكذا في لوحة «الخروج من مصر» بعيدين عن هالات التقديس، مهددين بالضياع، يمضون في فراغ موحش، تمتد من خلفهم جبال تخلو من أي أثر للحياة.
الإكثار من العناصر في مساحة ضيقة
وبالإضافة إلى هذا كله فان أعمال راغب عياد تتميز بالإكثار من العناصر المرسومة في المساحة الضيقة التي تتيحها اللوحة، ويعتبر هذا البعد الفني من سمات الهوية المحلية، ومن معالم معظم لوحات راغب عياد بعد عودته من بعثته في إيطاليا (1929).
في مجال الديكور
زيّن الفنان راغب عياد برسومه جدران العديد من الأبنية العامة والخاصة. أشهرها سلسلة من الرسوم التزيينية على جدران فندق شبرد القديم، أنجزها سنة 1935 لكن الفندق دمر في حريق القاهرة عام 1952، شارك الفنان راغب عياد كذلك في تزيين جدران المباني الدينية مثل كاتدرائية سوهاج القبطية والكنائس الكاثوليكية في المنيا وسمالوط.
آثاره
ـ أحاديث في الفنون الجميلة في نصف قرن (1908 ـ 1958).
ـ لمحات عن رحلاتي إلى إيطاليا.
المعارض
أقام راغب عياد عددا كبيرا من المعارض على مدي سنوات عمره بلغ 26 معرضا لإنتاجه داخل مصر وخارجها. وبدءًا من الثلاثينيات، عرض راغب عياد أعماله بشكل منتظم في صالون القاهرة الذي أسسته جمعية محبي الفنون الجميلة. أقام في حياته العديد من المعارض الفردية والجماعية في مصر وفي الخارج. تعرض أعماله حالياً في كل من متحف الفن المصري الحديث والمتحف الزراعي في القاهرة ومتحف الفنون الجميلة في الإسكندرية والمتحف العربي للفن الحديث في الدوحة.
1935 صالون القاهرة، مصر
1938 بينالي البندقية، إيطاليا
1949 معرض مصر ـ فرنسا، جناح مرسان، فرنسا
1992 معرض استعادي بمناسبة عيد ميلاده المائة من تنظيم مينا صاروفيم، قاعة إكسترا، القاهرة، مصر
تكريمه
نال الفنان راغب عياد كثيرا من التكريم والتقدير وحصل كما ذكرنا على جائزة الدولة التقديرية في الفنون (1965) وهي الجائزة التي تمنح عن عام ١٩٦٤
وفاته
توفي الفنان راغب عياد في 16 ديسمبر 1982 في القاهرة
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.