شعار قسم مدونات

مدن الملح.. هكذا روى عبد الرحمن منيف تاريخ السعودية

blogs عبد الرحمن منيف

 

تعدّدت أصناف الرّواية العربية المعاصرة خلال العقود المنصرمة، بين الرواية البوليسية، الرواية التاريخية، رواية الفانتازيا، الروايات السياسية، وهذا راجع بالأساس للقفزة النّوعية التي حقّقتها، نظراً للتجارب الكثيرة التي خاضها الكُتّاب العرب بعدما تبلورت في أذهانهم مشاريع روائية؛ اعتنوا بها وأنزلوها من وضعها كفكرة تخامر الذهن إلى مشروعٍ روائي يتأهّل إلى جوائز تحتلّ موقعاً رفيعاً في الساحة الثقافية وتحظى باهتمامٍ مهم، ويتصدّى لها النقّاد؛ سواء المحترفون والمتمرّسون وكذلك الذين لازالوا يتقفّون خطى النقّاد الكبار عن طريق استلهام طرق وآليات النّقد الحديثة.

 

راج مفهوم الرواية التاريخية في الأوطان العربية في مختلف العصور، وذلك لانتشار هذا النوع، وانكباب الروائيين العرب عليه، والاشتغال عليه بجهدٍ وجديةٍ كبيرين، وقد قدموا للمكتبة العربية، من هذا الصنف، ما لا يُعدّ ولا يُحصى من الروايات التاريخية التي تتناولُ أحداثاً شهدتها حقبة تاريخية محدّدة، واعتمدوا في هذه الروايات على وثائق تاريخية تعاملوا معها بشكلٍ مباشر؛ من خرائط ونصوص وخطابات ورسائل وكتب ومخطوطات، وهذا ينمّ عن الجهد الذي يبذله الروائي الذي يكتب الرواية التاريخية في تشييدها بحرفيّة عالية، وبناء شخصيات تتقاطع مع شخصيات تاريخية حقيقية والاختلاف يكون في بعض التفاصيل الجزئية التي تأتي من إبداع الكاتب.

 

كما أنّ الرواية التاريخية تتّسم بمعمارٍ سرديّ فريد؛ ويتجلّى تفرُّده في السبر في عبق التاريخ وأسرار الأمكنة سبراً. وقد لا يقتصر المشتغل على الرواية التاريخية في التعامل مع وثائق تاريخية فقط، بل هناك من يذهب إلى أبعد مدى، ويزور المكان التاريخي الذي عاشت فيه شخوص روايته، ويتفحصه بإمعان دون إغفال أي تفاصيل كيفما كانت، وكأنّه سيخرج فيلماً تاريخياً وليس كتابة رواية، هذا ما حدث مع الروائي والأستاذ بنسالم حمّيش أثناء اشتغاله على رواية "العلّامة" التي نالت نصيب الأسد من الاهتمام والنقد مقارنة بباقي أعماله الرّوائية. العلّامة هي رواية تناول فيها سيرة ابن خلدون، العبقريّ الكبير، الذي تميّز بنظرته الثاقبة ورؤيته العميقة، وتمحيصه لأبرز القضايا والإشكالات التي أثارت لغطاً في عصره.

 

سبق وأن تطرّقت لمدن الملح باعتبارها رواية أثارت حمأةً وضجيجاً وتبعها لغط كبير، وتصدى لها نقاد مرموقين، نظراً للطابع السياسي الحاضر فيها بقوّة، والنّزعة الانتقامية التي حرّكت صاحبها لكتاباتها بسردٍ مسترسل ومعمار وصفي بديع ينال رضى القارئ. في الحقيقية هي رواية منهكة، لم أنهيها إلّا بعد أن صرت واهن القوى، إذ تطلّبت وقتاً طويلاً من المواكبة والقراءة المتواصلة دون انقطاع.

مدن الملح هي رواية تاريخية بامتياز، إذ تؤرّخُ للمنطقة العربية عموماً، وللمملكة العربية السعودية على وجه التحديد. يبدأ منيف في التأريخ منذ سنة 1900م إلى حدود سنة 1975م التي شهِدت حادثة هزّت الكيان السعودي آنذاك هي مقتل الملك فيصل. هذه هي الفترة التي تناولتها مدن الملح عبر هندسة سردية متميّزة إلى أقصى درجات التميُّز. ولعلّ دارس التاريخ يعرفُ مدى رمزية سنة 1900م وما بعدها، وأين تكمنُ قيمتها في التاريخ السعودي، حيث شهدت السعودية خلال سنة 1902م الهجوم على قلعة المصمك في معركةٍ تعرف بـ معركة الرياض، والتي آلت في الأخير إلى انتصار قوّات الملك عبد العزيز، ومنيّ عجلان بن محمد العجلان، الذي كان أميراً على الرياض آنذاك، بهزيمةٍ نكراء.

 

عرض منيف التطورات التاريخية التي شهدتها المنطقة في شكلٍ أدبي جذّاب يستهوي القارئ، حيث وظّف، في اعتقادي، كل ما تعلّمه من تجاربه السابقة ليكتب هذه الرواية التي حضر فيها الجانب التاريخي إلى جانب الطابع السياسي كما سبق وأن أشرت، عرض منيف وقائع تاريخية، كما دأب غيره من المنتمين لهذا الصنف الروائي، فالرواية التاريخية كانت سائدة عبر مختلف العصور بتفاوتات معيّنة، لكن الأصعب في الرواية التاريخية هو عدم كون الروائي صادقاً في عرضه لهذه الوقائع التي يجعلها تتأرجحُ بين الواقع والخيال، كما أنّها قد تحملُ مغالطات تاريخية هي نِتاجٌ لنوايا مُضمرة ومبيّتة، وهو ما حدث مع منيف الّذي لمّح إلى أنّ التاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية قائم في الأساس على الصراع بين آل سعود والحركات السلفية الجهادية التي كان لها دور فعّال في تدوين التاريخ السعودي الحديث. فهذه الرواية هي ذات نزعة انتقامية تطمحُ إلى النّيل من آل سعود في المقام الأوّل.

 

اتكئ منيف على الأحداث التاريخية، ودرسها بعناية، شأنهُ كشأن المؤرّخ، وأعطاها تفسيرهُ الخاص، منطلقاً في ذلك من خلفية وإيديولوجية لم نكن لنُدركها بسهولة، وروى باكورة أحداث تاريخية اعتماداً على رؤيته السردية والوصفية، ومن خلال هذه الأحداث، وارتباطاً بضغينته تجاه آل سعود وحكمهم، أخذ موقف المدافع المستميت عن الحركة السلفية الجهادية، واستمرّ في الذّود عنها في أكثر من موقع، وصوّر المنتمين والتابعين لهذه الحركة كأبطال والحاملين لشعارات النّبل، والمتحلّين بالصدق والقيّم النّبيلة، دون أن يكلّف نفسه بتقديم نقد لهذه الحركة، ولهذا فقد بالغ منيف في وصفها بأوصاف حسنة دون أن يظهر مساوئها.

 

كما أبان منيف عن حقده، في مضمار استعراضه للوقائع التاريخية وسردها، تجاه الحركة الوطنية، حيث كان معادياً لها بصورةٍ كليّة، ورماها بأوصاف لا أعرف مدى صحتها حقيقة، إذ لستُ مطّلعاً على تاريخ السعودية، ولكن لديّ بعض الخطوط العريضة التي قرأتها هنا وهناك ولايزال صداها يرنُّ في ذاكرتي، بيد أنّ حركة تسمّى بـ الحركة الوطنية فمطالبها، ستكون دون أدنى شك، مطالب اجتماعية تهمّ الجميع، سيّما أنّ من قادوها هم عمّال بقيادة أيقونتها ورمزها ناصر السعيد، وتتحلى بالنبل، رغم أنّها لن تكون طاهرةً مائة بالمائة، فالشّوائب تحلّ في كلّ مكان على حين غرّة. وطالبت هذه الحركة باحترام المذاهب والعقائد، وأهم مطالبها، بصرف النّظر عن مطالبها الاجتماعية والسياسية؛ المتمثلة في إعادة النظر في الحكم وركائزه، هو الرفق بالشيعة وعدم ممارسة الحيف والجَور في حقّها.

 

 

في اعتقادي، وهو اعتقادٌ قد يكون صائباً أو خاطئاً، أنّ المعارضة في المملكة السعودية لم تكن متمثّلة في السلفية الجهادية فحسب، بل هناك معارضات أخرى منها كالليبراليون، ومتطلّعون إلى إنشاء دستور يستعيد، دفعة واحدة، حقوقهم المهضومة، وأن تمارس الديمقراطية، وألّا تنتهك حقوق المواطنين، ويصبح الحكم حكماً مقنّناً ومقيّداً. لذا فمنيف أخطأ عندما اعتبر أنّ السلفية الجهادية هي تيار الوحيد الذي شكّل شوكةً في حلق آل سعود. ربّما تعامى منيف عن الدور الجوهري الذي لعبته الحركات الليبرالية، هو تهميش مقصود للحركة ولفاعليتها. وحاول أيضاً التأكيد على أنّ حركة الإخوان التي أجهز عليها الملك عبد العزيز، وأنّ واقعة مقتل الملك فيصل هي استمرار وامتداد حقيقي لهذه الحركة انتهت رسمياً سنة 1928م.

 

أحيطكم علماً أنني لست بصدد نقد منيف، لأنني أفتقرُ لأبسط مقوّمات النّقد، فـ عبد الرحمن منيف وإرثه الأدبي هو مشروع قلّما يتكرّرُ في التاريخ، والدليل على ذلك أنّه يحظى بموقعٍ مهم في الأدب العربي، فهو قمّة بلا جدل. وأنا باعتباري قارئاً له ومهتمّا بإرثه الخالد أُبدي بعض الملاحظات البسيطة التي اكتشفتها وأنا أطالعُ الرواية، ويمكنُ أن تكون ملاحظات صائبة أو خاطئة. فكيف يحق لي أن أنتقد منيف وهو المشروع الذي نتعلّم منه تقنيات السرد والشقشقة اللغوية والحبكة المحكمة كسمات قلّما نصادفه عند روائيين عرب قد لا أنتهي من عدّهم؟

 

على كلّ حال، منيف بدأ كتابة هذه الرواية التاريخية التي نحت لها عنوان جذّاب ومحيّر في نفس الوقت، في الفترة التي هاجر فيها السلفيون من السعودية متوجّهين إلى أفغانستان، وأسّسوا تنظيمهم، أي أنّه كان مواكباً لتحركات السلفية الجهادية التي أشاد بها في الرواية، وهي نفس الحركة التي عقدت العزم على شنّ هجمات إرهابية على دولٍ مختلفة، مخلّفة مجازر بشرية وبرك دموية في صور يستنكرها الإنسان. ولذلك وقّف أطوار روايته في سنة 1975م أي السنة التي قُتِل فيها الملك فيصل، وكان بإمكانه عرض وقائع تاريخية شهدتها المملكة بعد هذه السنة، لكنه تغاضى عن ذلك، هارباً من الغوص في تفاصيل ما يحدث في أفغانستان؛ الأرض الجريحة، من طرف نفس الحركة التي نوّه بها.

 

ومعلومٌ أنّ منيف كان متنوِّراً سياسياً وكائناً تقدّمياً، لكن لماذا استمر في الإشادة بهذه الحركة؟ السبب، من وجهة نظري البسيطة، أنّه كان فاقداً الأمل في جدوى النّضال السياسي الذي يتطلّب قاعدةً جماهيرية تقنعها بمدى نجاعة النّضال، كما كان فاقداً للأمل في الشعارات التي ترفعها الحركات والاتجاهات القومية والليبرالية. هذا بالضبط، برأيي، سببُ تعاطف منيف مع السلفية الجهادية ومحاولته الجادّة للرفع من شأنها.

 

حاولتُ هنا تقديم نظرة مُوجزة عن بعض الملاحظات التاريخية التي وردت في الرواية، لكن الرواية، في الحقيقة، جديرة بالقراءة والاهتمام والسبر في أغوارها، لأنّها ببساطة تستحق. هي رواية قُدّمت للسعوديين فقط، والدليل على ذلك هو عرض صاحبها لتاريخ الدولة الحديث، واستعماله لعبارات ومصطلحات تخصُّ بيئته، كم طغى على الرّواية، وهذا ظاهر لا جدال فيه، الحوار باللغة العامّية السعودية، وكأنّه يُوجّهُ روايتهُ للقارئ السعودي تحديداً، متطلّعاً، دون أدنى شك، إلى مستقبلٍ أفضل يعرفُ تغييراً جذرياً في الوسط السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لأنّ القيام بدراسة متأنية ورصينة حول خماسية مدن الملح، باعتبارها رواية تاريخية، يقتضي بذل جهدٍ جهيد، واستغراق وقت ليس بالقصير، لذلك ارتأيتُ أن أكتفي بهذه الأرضية التي تناولتُ فيها الخطوط العريضة التي يُمكن الانطلاقُ منها والشّروع في دراستها دراسةً علمية موضوعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.