شعار قسم مدونات

فيلم SERGIO.. حين تتغلب الإنسانية على السياسة

"مرحبا، أنا سيرجيو فييرا دي ميللو، وأشغل حالياً منصب المفوض السامي لحقوق الإنسان، هذه المنظمة هي أفضل فرصة ستسنح في حياتك لتحقيق أحلامك، لكن إياك أن تنسى، أن التحديات الحقيقية والمكافآت الحقيقية للخدمة في الأمم المتحدة، هي في العمل الميداني، حيث المعاناة، والناس يحتاجون إليك"

 

بهذه الكلمات يبدأ فيلم SERGIO الذي أصدرته شركة نتفليكس في نيسان الماضي، ويتحدث عن مقتل الدبلوماسي البرازيلي بتفجير مقر بعثة الأمم المتحدة في بغداد عام 2003، تبناه تنظيم القاعدة في العراق، وهي الكلمات التي تضيء على شخصية دي ميللو، حيث تقع معاناة الناس في مقدمة اهتماماته، وتسمو حقوق الإنسان عنده على السياسة، الأمر الذي دفع حياته ثمناً له كما يقول الفيلم وإن بطريقة غير مباشرة، إذ كان الدبلوماسي المحنّك سيرجيو دي ميللو يحمل هم إحلال السلام في الأرض، وهو ما تجلى خلال 34 عاماً من عمله في الأمم المتحدة، قضى جلّها متنقلاً بين العديد من دول العالم ساعياً لنشر السلام فيها.

 

عمل دي ميللو ضمن عمليات حفظ السلام في بنغلادش والسودان وقبرص وموزمبيق وبيرو، وعُين عام 1981 كبيراً للمستشارين السياسيين في قوات الأمم المتحدة في لبنان، وفي الفترة بين عامي 1991 و 1996، عمل مبعوثاً خاصا للمفوض السامي في كمبوديا، ومديراً لإعادة التوطين في سلطة الأمم المتحدة الانتقالية فيها، كما شغل منصب رئيس الشؤون المدنية في قوة الأمم المتحدة للحماية، ومنسق الأمم المتحدة الإقليمي للشئون الإنسانية لمنطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا.

عام 1996 تم تعيينه مساعداً لمفوض الأمم المتحدة السامي للاجئين، وبعد عامين انتقل إلى نيويورك كوكيل للأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، كما عُين ممثلاً للأمين العام في كوسوفو، ومديراً للحكومة الانتقالية للأمم المتحدة في تيمور الشرقية، وفي عام 2002 أصبح سيرجيو فييرا دي ميللو مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، وبعد أقل من عام من تعيينه مفوضاً سامياً، طلب منه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، أن يأخذ إجازة مؤقتة من منصبه للعمل في العراق كممثل خاص له هناك، ولكن بعد ثلاثة أشهر فقط من وصوله إلى العراق، قتل فييرا دي ميللو مع 21 من زملائه عندما تعرض مقر الأمم المتحدة للهجوم بسيارة مفخخة.

 

فيلم SERGIO مدته 118 دقيقة، من إخراج غريغ باركر، وسيناريو كريغ بورتون، ومن بطولة فاغنر مورا بدور سيرجيو، وآنا دي أرماس بدور كارولينا لارييرا زميلة سيرجيو التي تعرف عليها خلال عمله في البعثات الدبلوماسية وأصبحت لاحقاً حبيبته، إضافة إلى برادلي ويتفورد بدور بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق، وهو من الأفلام البسيطة التي لا تتطلب مجهوداً لربط الأحداث حين يروي واقعة كما جرت، أو حين يقدم قصة حب عادية لا تختلف كثيراً عن قصص الحب الأخرى، لكنه يولّد تساؤلات تبدو أقرب للإدانة منها للبحث عن إجابة، ولكن بطريقة ذكية من شأنها أن تترك للمشاهد حرية الربط والاستنتاج.

 

ورغم أنه يصنف من أفلام السيرة الذاتية، إلا أن الفيلم أغفل كثيراً من سيرة الدبلوماسي البرازيلي، واكتفى بومضات سريعة عن حياته العائلية، وكان ذاك أمراً مقصوداً ـ من وجهة نظري طبعاً ـ وهو ذات السبب الذي جعل الرومانسية فيه تطغى على قضايا سياسية مهمة مرّ عليها مرور الكرام، كأزمة الخمير الحمر في كمبوديا، وحركة التحرر في تيمور الشرقية، ودون ذكرٍ أصلاً لمحطات مفصلية في عمل الرجل وحياته.

 

الفيلم لم يكن يريد أن يغرق في السياسة وتحليل الأحداث وسرد الوقائع، لأنه يسعى لتقديم رسالة في بضعة مشاهد قصيرة ترك للمشاهد فسحة تأملها والتفكير فيها خلال مشاهد الاسترجاع (فلاش باك) الكثيرة لأحداث تم التطرق إليها بسطحية، وهنا تكمن روعة السيناريو، فالفيلم يعود بك إلى سنوات ثلاث مضت في تيمور الشرقية لكنك لا ترى سوى قصة حب عادية، بين دي مييللو الذي كان يترأس الحكومة الانتقالية هناك وكارولينا لارييرا مسؤولة الملف الاقتصادي، وبالتأكيد فقد كان من الضروري التطرق للقضية التي كانا يتواجدان هناك بشأنها ولكن بشكل عابر، وربما لتفسير جملة بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق حين قال لسيرجيو "أنت لست الحاكم هنا".

 

 

في مشهد هو المفتاح لفكرة الفيلم الأساسية، يدور حوار بين سيرجيو وبريمر في أبوغريب؛ السجن العراقي الذي كانت الولايات المتحدة تنوي إعادة فتحه، والذي شهد لاحقاً انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، يطلب سيرجيو من بريمر ضرورة الإسراع في إجراء الانتخابات ومغادرة القوات الأميركية للعراق ليرد بريمر بالقول: "أنت لست فيتيمور الشرقية، أنت لست الحاكم هنا".!

 

هنا يتجلى الخلاف حول الوجود الأميركي في العراق، بين المبعوث الأممي الذي أبدى استياءه من مظاهر الاحتلال منذ وصوله إلى بغداد، وبين الإدارة الأميركية التي أزعجها انتقاد الرجل الصريح لسياساتها، ولقاؤه مع المرجع الشيعي علي السيستاني الذي كان يرفض لقاء بريمر بل وحتى الرد على اتصالاته، وهو الخلاف الذي كان حتى تلك اللحظة غير معلن، إلى أن يقرر سيرجيو في المشهد الذي يليه أن يصعّد الموقف حين يسأله أحد الصحفيين حول ما إذا كانت الأمم المتحدة تشكل غطاء للاحتلال الأميركي، ليرد الدبلوماسي الذي يتميز بالهدوء بلهجة عصبية وحادة بأن الأمم المتحدة لم تأت لدعم الاحتلال ولن تكون غطاء لأي أحد أو أداة بيده..

 

"نحن منظمة مستقلة" يختم بها تصريحه الذي أغضب بريمر ودفعه للاتصال بسيرجيو للتعبير عن انزعاجه، ليلقي الأخير قنبلة في حضن بريمر بإبلاغه أن البعثة ستقدم تقريراً تفصيلياً لمجلس الأمن حول الانتهاكات الأميركية في العراق، "سيرجيو.. مهاجمة الولايات المتحدة ليست أفضل طريقة لتصبح الأمين العام المقبل للأمم المتحدة" قالها بريمر قبل أن يغلق سيرجيو سماعة الهاتف وتنفجر القنبلة في المشهد الذي يليه.

 

الفيلم أشار في النهاية إلى أن تنظيم أبو مصعب الزرقاوي تبنى عملية التفجير، كما لفت إلى قيام دي ميللو بتخفيف الإجراءات الأمنية أمام مقر البعثة، وهو ما ندم على فعله واعتذر عنه بشدّة لزميله غيل لويشر وهما تحت أنقاض المبنى، "لماذا يهاجمون مبنى الأمم المتحدة" يسأل لويشر، "لأنه هدف ضعيف" يجيب عامل الإنقاذ، لكن الفيلم لفت في المقابل إلى عدم توفر معدات إنقاذ مع المنقذين، "أقوى جيش على وجه الأرض وهذا كل ما تملكون.!" يصرخ سيرجيو وهو يصارع الموت، ثم يأتي بريمر متمهلاً، "هل هو على قيد الحياة؟" يسأل الضابط الذي أخبره أن سيرجيو لا يزال تحت الأنقاض، هذه الأمور المتباينة، رغم توجيهها المتلقي نحو نقطة معينة، إلا أنها تركت له حرية التفسير، خاصة حول سؤال بريمر عما إذا كان سيرجيو لا يزال حياً، الأمر الذي بدا كإدانة دون توجيه اتهام مباشر.

 

"كانت وفاة سيرجيو دي ميللو نقطة تحول للعراق، ووضعت نهاية لحقبة المحادثات الدبلوماسية للأمم المتحدة، سحبت الأمم المتحدة بعثتها من العراق، وسقطت البلاد في فخ حرب أهلية طويلة" يختم الفيلم بهذه الكلمات.. فهل وصلت رسالته؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.