يشهد القطر الليبي وهو أحد أقطار المغرب العربي الكبير حربا أهلية محتدمة منذ أن أعلن حفتر بدعم من بعض دول الشرق العربي انقلابه على المؤسسات الدستورية التي قامت بعد ثورة 17 فيفري 2011 التي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي. ومنذ ذلك الإعلان ومحاولات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر لا تتوقف عن غزو طرابلس ومحاولة السيطرة عليها والإعلان من هناك عن انتصار الثورة المضادة وقوى الطغيان والاستبداد في العالم العربي التي كل مناها وغايتها القضاء على كل نفس تحرري في المنطقة العربية من شرقها لغربها. لقد أدت مغامرات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر إلى تقسيم ليبيا بين الشرق والغرب والجنوب وكأنها تعود إلى الأقاليم الثلاث القديمة التي كانت تتشكل منها ليبيا الملكية بعد انتهاء الاحتلال الأجنبي.
إن الوضع الليبي وضع معقد تعقد العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس قبلي يمنع تشكل دولة مستقرة على أسس المواطنة دون مراعاة تلك التوازنات. فلولا هذا التوازن القبلي لما صمد حفتر طيلة هذه المدة ذلك أن الجنرال المتقاعد خليفة حفتر مدعوم من قبائل الشرق الليبي التي ينتمي إليها ولعل وجود عقيلة صالح رئيس البرلمان وأحد كبار شيوخ القبائل الشرقية إلى جانبه دليل على ذلك. فالطبيعة القبلية للمجتمع الليبي هي أحد العوائق الأساسية في تشكل الدولة بمعناها الحديث مثلما حصل الأمر في تونس أو الجزائر وقد تعمق هذا الأمر أكثر مع الزعيم الليبي معمر القذافي حيث كان التوازن القبلي عنصر رئيسي في محافظته على السلطة طيلة أربعين عاما إلى جانب ضربه للعمود الفقري لأي دولة ألا وهو المؤسسة العسكرية التي فككها وأحل محلها مليشيات يقودها أبنائه وبني عمومته انهارت مع ثورة الشعب الليبي وطموحه نحو الحرية والكرامة.
إن مجتمع بهذا التعقيد يحتاج لحكمة سياسية وذكاء سياسي من قبل أبنائه قبل غيرهم حتى يخرج من الولاء للقبيلة إلى الولاء للدولة الجامعة والموحدة للجميع على أسس المواطنة والكفاءة. وهذا الأمر لا يمكن أن يتوفر إلا متى غادرت كل القوى الخارجية التراب الليبي تارك لليبيين وحدهم إدارة خلافاتهم وبناء السلام فيما بينهم. لكن الواقع الليبي يشهد تدخل أطراف متنوعة ومختلفة وغياب الحزم من الأمم المتحدة في تطبيق قرارتها التي تضمن استقرار الوضع تحت حكومة شرعية طبقا للاتفاقيات الموقعة في الصخيرات وتونس وغيرهم. وحتى الحكومة الشرعية التي أقرها مجلس الأمن والأمم المتحدة تشن عليها حرب شعواء ليس فقط من الجنرال المتقاعد خليفة حفتر بل من دولتين من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ومسؤولتان عن ضمان الأمن والسلام في العالم وهما روسيا وخاصة فرنسا.
في ظل هذا الوضع المعقد جاءت دعوة السيسي للقوات المصرية للاستعداد لغزو ليبيا لتزيد الأمر تعقيدا خاصة مع التعارض الكبير في المصالح بين مصر ودول الشرق العربي التي تدعمها وخاصة السعودية والامارات وبين دول الغرب العربي وخاصة الجزائر وتونس. فالجزائر تشهد تحولا سلسا وتدريجيا نحو الديمقراطية بمعاضدة الجيش الجزائري وتونس والمغرب تواصلان مسارهما الديمقراطي في تأني وثبات. وهذه الدول لن تقبل قيام دولة استبدادية قمعية على حدودها تكون تهديدا دائما لها فتونس لا تنسى ما عانته مع الزعيم الراحل معمر القذافي الذي هدد أمنها في أحداث قفصة وغيرها من الأحداث ولذلك حين قامت الثورة الليبية كان رئيس الجمهورية حينها فؤاد المبزع ورئيس الحكومة المرحوم الباجي قايد السبسي من أكبر داعمي الثورة الليبية حتى حققت أهدافها ولذلك فليس من مصلحة تونس إعادة ليبيا للديكتاتورية من أجل سواد عيون سيسي مصر. كما أن لتونس مصالح اقتصادية كبرى في ليبيا تتعارض مع سيطرة مصر عليها واحتلالها لها.
أما الجزائر والتي تستعد في دستورها الجديد للسماح لجيشها بالتدخل خارج حدودها الترابية فلن تقبل هي أيضا لأسباب استراتيجية واقتصادية أن تكون مصر على حدودها الشرقية عبر الهيمنة على ليبيا ولذلك كما أن سرت خط أحمر للسيسي فهي خط أحمر أيضا للجزائر. ولذلك فإن التدخل المصري الذي يسعى إليه السيسي لن يزيد الأمر إلا تعقيدا ولن يؤدي في النهاية إلا لمواجهة شاملة بين شرق الأمة وغربها ولن يستفيد من ذلك إلا أعداء الأمة.
يبدو أن دعوة مصر لاجتماع لوزراء الخارجية العرب إنما هو محاولة لإضفاء الشرعية على التدخل المصري مثلما فعلت سوريا من قبل حين تدخلت في لبنان والذي انتهى بخروج مذل لها بعد أن تحول دخولها من دعم لاستقرار لبنان إلى تدخل سافر في شأنها الداخلي ضاق منه شباب لبنان ضرعا فثار بعد مقتل الحريري. والسيسي اليوم يريد إعادة نفس السيناريو مدعوما من دول عرف عنها العداء لكل نفس تحرري في الأمة العربية إلى درجة التحالف مع الحركة الصهيونية لأجل منع ذلك حتى أصبح الصهاينة يتفاخرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي بزياراتهم لهذا الدول وأصبح بعض مواطنيها يجهرون دون حياء بعلاقتهم مع قتلة أطفال ونساء وشيوخ فلسطين بل إن إحدى تلك الدول شارك طياريها في الهجوم الصهيوني على غزة المحاصرة من قبل نظام القمع في مصر منذ سنين.
إن هذا الدعم سيؤدي حتما لانقسام جامعة الدول العربية فدول الغرب العربي لن تقبل مطلقا هذا التدخل كما لم تقبل غيره من تدخل الدول الأخرى. فالخيار في الغرب العربي أن الحل بيد الليبيين فقط وهو ما تسعى إليه تونس والجزائر عبر المحاولات العديدة لجمع الفرقاء اللبيين. ففي الوقت الذي تجمع فيه الجزائر هؤلاء لحلحلة المسألة الليبية سلميًّا يعلن السيسي عن الموافقة المزعومة لمجلس نواب طبرق على إمكانية تدخله العسكري وهو بذلك يهدف لقطع الطريق أمام كل حل سلمي تسعى إليه دول الغرب العربي. وهو يستبق أيضا زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد لفرنسا التي من المتوقع أن يحاول فيها اقناع الرئيس الفرنسي أن الخيار الأفضل لليبيا هو الحل السلمي وأن الخيار العسكري لا مستقبل له.
إن المغامرة القادمة للسيسي – إن حصلت وهو أمر مستبعد – سينتج عنها تفكك جامعة الدول العربية والإعلان النهائي لموته الفعلي بعد أن أعلن موتها السريري منذ حصار دولة قطر وحرب اليمن والتدخل في ليبيا عبر دعم مليشيات حفتر. كما ستؤدي إلى تورط جيش مصر في المستنفع الليبي وهو الذي لم يتمكن للآن من السيطرة على سيناء رغم تهجيره لأغلب سكانها وسياسة الأرض المحروقة التي يمارسها فيها. إن غاية السيسي أنما هو تحويل أنظار الشعب المصري عن التهديد الوجودي الذي يمثله السد الأثيوبي بخلق خطر وهمي قادم من الغرب في اتجاه الشرق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.