في بيتنا المتواضع الخالي تقريبًا من أي أثاث، كنت أفترش الأرض أمام شاشة التلفاز أنتظرُ برامج قناتي المفضلة سبيستون، لم أكن لأتنازل عن حقي في مشاهدة وصلة طويلة تبدأ منذ الظهيرة وحتى منتصف الليل، لا حرج من استخدام الصراخ ولا بأس بقليل من اللكمات أوجهها لشقيقي الذي كان يزاحمني على مشاهدة غيرها، في ذكرى ميلادها أستحضرتُ ذكرياتي مما خلق لدي حالة دعتني إلى أن ابتسم وأرغب في كتابة بعض الكلمات عما كان يختزلني من مشاعر وقتها.
في البداية أود القول أن القناة مثلت نقلة نوعية في عالم الأطفال بما تبثه من برامج ذات محتوى إبداعي ورسالة هادفة، وهو أمرٌ غاب قبلها ولم يأتي بعدها، لا ذكريات من غير التطرق إلى أغاني سبيستون، فقد كانت الإثارة تبدأ مع كل شارة بداية، قد تجعلك هذه الأغاني تقفز حماسًا عندما تسمع مثلًا شارة "هزيم الرعد" أو "دراغون بول" بصوت الأستاذ طارق العربي، أو تجعلك تشعر بتيار هادئ يصيب جسدك بالقشعريرة عند سماع شارة "القناص" تتلوها رشا رزق، وبين الحماس والإحساس، حكاية كلمات تبث فينا الأمل وتحثنا على العمل، تشعل فينا جذوة التحدي لتحقيق أحلامنا، "شرف الوطن هو أرضي، شرف الوطن قبلي وبعدي"، كلمات نُقشت في الأفئدة تحمل معاني الصداقة والوفاء والحب بإخلاص.
أما ما وراء الشارة فنرى أحداثًا شكلت ذاكرتنا، فلا زلت أذكر لحظة موت ألفريدو ودموع روميو في مشهد يُعبِّر عن الصداقة الحقيقية وما يعانيه الفقير جراء المرض في مجتمع طبقي، ولا زلت أرى الرفاق عبد الرحمن وحمزة وحكمت يتعاهدون على نشر العدل والفضيلة في البلاد في رسالة تحثنا على حفظ الأوطان والدفاع عنها، ولا أنسى كلمات ريمي لماثيو قائلة له: لا تيأس! هذا كله جُبِلَ في شخصيتي ورفاقي من جيل التسعينات، فقد عكس "عهد الأصدقاء" صورة الطبقية التي تسود المجتمعات وما ينجم عنها من ظواهر سلبية كعمالة الأطفال وحرمانهم من التعلم وانخراطهم في الجريمة وغيرها من المظاهر، هذه الصورة تشبه ما نعيشه في بلادنا العربية، وقد اكتسبنا صلابة الأصدقاء، ورأينا أن طريق العمل والتعلم في آخره نور يضيء عتمة الفقر والبؤس.
أما على المستوى المعرفي، فإن الفواصل التي تحوي معلومة جديدة، أو ربما حكمة، أو أنها تبث شيئا من روائع لغتنا العربية بأسلوب يتناسب مع أعمارنا في تلك الفترة، ساهم هذا في حبي للُّغةِ وحروفها، بما وسَّع مداركي وأثرى حصيلتي اللغوية، لقد ظهرت سبيستون في قالب جديد هذه الأيام تواكب التغيرات المستمرة، فاختياراتها لم تكن موفقة إلى حد ما بخصوص الحركة والواقعية بخلاف ما كانت عليه، ولكن يحسب للقائمين عليها التزامهم بترسيخ الهوية العربية والقيم المثلى، وكذلك الابتعاد عن المحتوى عديم الفائدة، وأعني ما أصبحنا نراه في قنوات أطفال أخرى تبث برامجها باللهجات المحلية مما يهدد الحصيلة اللغوية لدى الطفل، كما أن معاني الفضيلة تغيب عن تلك القنوات ببث البرامج بقالبها الثقافي الغريب عن الطفل العربي، وهذا أمر لم نرهُ في سبيستون الذي هيأتْ وهذبتْ الشخصيات بما يتناسب مع الطفل وثقافته العربية ومحيطه المحافظ، هذا أكسب قناة شباب المستقبل مكانة مميزة ارتبطت برسالتها كناشرة للثقافة العربية ورسالة الأخلاق النبيلة.
لقد أصبحت سينما الأطفال سباقا بين الشركات وتحديدا اليابان وأمريكا، هنا فإن تصدير هذه الأفلام والمسلسلات بقالبها الثقافي دون انتقاء أو تنقيح سيؤدي إلى خطر يهدد الهوية العربية ويؤثر على شخصية الطفل الذي يتلقى في هذا السن كل ما يتوجه اليه من كلمات وصور، في ظل عالم يسير بسرعة جنونية في طريق التقدم التقني، أصبحت خيارات مشاهدة الإنمي متاحة على كثير من المواقع، وأستطيع القول أن سبيستون وعائلة "طرقان" استطاعوا أن يظهروا التزاما واحترافية بما قدموه؛ ذلك أنه لا يمكن بث كل الصورة؛ والسبب كما قلنا يعود لتأثير هذه المشاهد الصريحة على الطفل وشخصيته في المستقبل، كنت أحزن كثيرا عندما يتوقف أحد برامجي المفضلة مثل ناروتو، لكن الضرورة لها أحكام، فمشاهد الضرب المبرح والدماء التي تسيل بكثرة قد يكون لها أثر سلبي على الأطفال.
أخيرًا، إن ذكريات الطفولة هي أفضل موجه لنا لتربية أطفالنا؛ فخلال جلسة هادئة يمكن معرفة ما الذي غاب عنا في تلك الفترة، وما هي الصعوبات التي واجهتنا، وبالتالي البحث عن حلول وتقديمها للطفل، وكذلك الأمر بالنسبة للسينما التي أصبحت تحتضن الطفل وترشده بشخصيات أبطالها، وبالتالي فإن انتقاء ما يشاهد طفلك لم يعد خيارًا وإنما أمر إجباري، وعلى ما سلف فإن سبيستون أثبتت أنها خيار مناسب، خاصة أنها جعلت بثَّ الأملْ شعارًا لها، وما دامَ الأملُ طريقًا فسنحياهُ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.