الأستاذ الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة (1910 ـ 1984) عالم من كبار علماء اللغة العربية في عصره، تتفاوت التعبيرات الهادفة إلى تعريف حقيقة إنجازه العلمي ومعظمها يخرج بجهده عن طبيعته وتفرده، وهو ما يلاحظه أي قارئ لسيرته في المصادر المختلفة، بيد أن الميدان الأكبر لإنجازه العلمي كان في تفوقه على النحاة القدامى الكبار بمن فيهم سيبويه بما أتمه من دراسة نحوية وصرفية متعمقة وواسعة المدى استقرأ فيها أسلوب القرآن الكريم في التعبير عن المعاني بالأدوات المختلفة مقدما قواعد جديدة تصحح ما توصل إليه القدامى وتضيف إليه استنادا إلى النص القرآني، وقد سبق هذا الإنجاز بإنجازاته الأكثر شهرة في فهرسة كتب سيبويه والمبرد وغيرهما على نحو رائع ومدهش، ومن الطريف الذي لا ينبغي التفريط في البوح به أن السبب في كثير من الخلط في فهم إنجاز الشيخ عضيمة يرجع إلى أنه منح عنه جائزة الملك فيصل في الدراسات الإسلامية بينما أن مجال الدراسة هو اللغة ومن ثم فإنه كان جديرا ولايزال بجائزة الملك فيصل في اللغة العربية والأدب العربي لكننا نقول ما قاله قدامى الإغريق: حسبك أنك نلت التقدير لأنك أهل للتقدير .
كان الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة رابع من حصل على جائزة الملك فيصل في الدراسات الإسلامية ١٩٨٣ وهو اول مصري يحصل على ها فقد حصل على ها قبل الأستاذ محمد قطب ١٩٨٨ والدكتور حسن الساعاتي ١٩٩٣ والدكتور يوسف القرضاوي ١٩٩٤ والدكتور رشدي راشد ٢٠٠٧ أما الثلاثة الذين نالوها قبله منذ نشأة الجائزة ومنحها في ١٩٧٩ فكانوا هم الدكتور فؤاد سزكين ومحمد مصطفى الاعظمي ومحمد نجاة الله صديقي . وقد تصادف نيل الشيخ لهذه الجائزة في ذلك العام الذي فاز فيه مع فوز الدكتور شوقي ضيف بجائزة الملك فيصل في اللغة العربية والادب العربي، كان الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة بعد هذا أبرز نموذج لأساتذة الجامعة الأزهرية الذين حال تفرغهم لإسهاماتهم الأكاديمية في الجامعات العربية بينهم وبين نوالهم ما يستحقون من لمعان أكاديمي ومجتمعي في مصر، ولم تعوضهم الجوائز الكبرى كجائزة فيصل العالمية عن الحضور الذي كانوا يستحقونه في القاهرة ومجتمعها العلمي، ومع كل تقديرنا له فإننا لا يمكن لنا أن نشارك فيما هو شائع من اتهام مصر بعدم تقديره لسبب واضح وواحد وهو أنه على سبيل المثال بقي في السنوات العشر الأخيرة من عمره خارج مصر تماما لم يعد إليها إلا في اليوم الذي أصيب فيه عقب عودته فتوفي . ومع هذا الغياب عن الحضور الإعلامي والمجتمعي فقد نال الشيخ من التقدير المصري الرسمي ما ناله أقرانه من علماء الازهر .
بدأت معرفتي بفضل هذا العالم الجليل حين هداني الله سبحانه وتعالى في مرحلة الفتوة وغرورها وعافيتها إلى أن أبدا مشروعا لاستكمال المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم بأن أضم اليه فهارس للأدوات وحروف المعاني التي لم يفهرسها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، وقد مضيت في هذا العمل (الذي سميته اختصارا بالذيل ) خطوات واسعة من قبل أن أبدأ دراسة الطب، وكنت أتحدث إلى علماء اللغة الأجلاء عما أفعله فلا يبخلون على بالتشجيع الصادق إلى أن حدثني بعضهم بمشروع الشيخ عضيمة في دراسة أساليب القرآن معتمدا على نهج مشابه، فأدركت أنه يمارس عمله الكبير على نحو كان يفعل والدي وأساتذتي حين يبدأون البحث من قضية أو مشكلة أو فرض أو سؤال، وأنه لن يبدأ بالاستقراء لكنه سيمارسه حتما، ثم كان لدراسة الطب أن أفهمتني أن أساليب المستشرقين في الاستقراء لا يمكن أن تمارس في مؤسساتنا العلمية القديمة إلا من خلال حادثة يكون لها حديث وليس من قبيل دراسة علم وظائف الأعضاء قبل دراسة علم الأمراض .
نشأته وتكوينه
ولد الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة في قرية خباطة وهي إحدى مديرية (محافظة) الغربية في ١٥ يناير (1910)، وتلقى تعليما دينيا تقليديا بدأه في الكتّاب، ثم في الأزهر حيث درس مرحلتيه الابتدائية والثانوية في المعهد الأحمدي بطنطا، ثم كان من أوائل الذين خضعوا للنظام التعليمي الجديد في الأزهر، وقد نال الشهادة العالية من كلية اللغة العربية ١٩٣٤ في دفعة من أوليات دفعاتها، وكان من أساتذة جيله في تلك الكلية: الشيخِ إبراهيمَ الجبالي، والشيخِ سليمان نوار، والشيخِ محمَّد محيي الدّينِ عبد الحميد، والأستاذِ أحمد نجاتي والأستاذِ على الجارم، والدكتورِ عبد الوهاب عزام، والأستاذ محمد نور الحسن.
واصل الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة دراسته العليا حتى نال الشهادة العالمية من درجة أستاذ (1943) وكان موضوع رسالته: «أبو العباس المبرد وأثره في علوم العربية»، وكان بهذا واحدًا من أوائل الأزهريين الذين حصلوا على العالمية من درجة أستاذ. وفي بعض المصادر المتاحة عن حياته أنه كان قد قدم رسالة أخرى في مرحلة التخصُّصِ، (1940)، بعنوانِ "المشترك في كلام العربِ".
كان الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة واحدًا من جيل أساتذة الأزهر الأكاديميين الأوائل الذين تأهلوا لدرجة العالمية من درجة أستاذ، وشغلوا وظائف الأستاذية في الكليات الأزهرية قبل تطوير 1961، وقد ناظر الدكتور عضيمة في هذا الكادر العلمي الأزهري الجامعي مجموعة من زملائه الأزهريين الأفذاذ يأتي في مقدمتهم الأستاذ الدكتور الشيخ محمد نايل (1909- 2011)، الذي قضى حياته هو الآخر أستاذًا للأدب في كلية اللغة العربية وعميدا للكلية وعضوا في مجمع اللغة العربية، وقد أتيح له عمر أطول بكثير من عمر الشيخ عضيمة، ومنهم زميله التالي له في المولد بعامين الدكتور محمد رفعت فتح الله (١٩١٢- ١٩٨٤ ) الذي وصل إلى عضوية مجمع اللغة العربية في١٩٧٩. وكان من جيل أساتذة علوم اللغة والنحو والأدب الأزهريين الذين زاملوا الشيخ عضيمة كل من الدكتور إبراهيم البسيوني (1911 – 1195)، الذي وصل أيضًا إلى عضوية مجمع اللغة العربية في ١٩٩٢، والدكتور عبد العظيم الشناوي (1911 – 1991)، والدكتور إبراهيم نجا ١٩١٣- ١٩٧١ والدكتور سليمان ربيع ١٩١١- ١٩٨٨، والدكتور حسن جاد ١٩١٤- ١٩٩٥ .
وكان هذا الجيل من الحاصلين على العالمية بدرجة أستاذ قد تعرضوا لظلم الدكتور محمد البهي وتعسفه غير الواعي حين تولى منصب مدير الجامعة الأزهرية، حيث كان حريصًا على أن يؤخر مكانتهم ليُمكن لشهادات الدكتوراه الغربية وللحاصلين على شهادات الدكتوراه الغربية ؛بحيث تسبق الدرجات الغربية هذه الدرجة الأزهرية العلمية الوطنية، التي كان الحاصلون على ها قد ناقشوا بالفعل رسائل علمية اشترك في مناقشتها أساتذة الجامعات المصرية من خارج جامعة الأزهر، وشغلوا بها المناصب العلمية والأكاديمية في الكليات الأزهرية وقاموا بها خير قيام. قبل أن نمضي في الحديث عن سيرة الشيخ ومؤلفاته نذكر أولا فضل الأستاذ الدكتور تركي بن سمو العتيبي الذي كتب مؤلفا ضخما عن استاذه الشيخ عضيمة فجزاه الله عنا خير الجزاء، ونكر ثانيا أن كتابة هذه السيرة للشيخ استغرقت مني أوقاتا متباعدة على مدى عشر سنوات حتى استقام لي بناؤها على نحو ما يراها القارئ في هذه المدونة .
عمله خارج مصر
بعدَ حصولِ الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة على الشهادةِ العالميةِ من درجة أستاذ عين الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة مدرسا في كلية اللغة العربية بالقاهرة، ثم ابتعث إلى مكة المكرمة في أول بعثة أزهرية إلى السعودية (1946)، ووصل إلى مكّةَ المكرمةِ في يناير عام 1947، وبعدَ مدةٍ قصيرةٍ من إيفاده تزوّجَ في مصر، ورحلَ بزوجتِه إلى مكّةَ المكرمةِ، وفي الستينيات أعير الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة إلى ليبيا، إلى مركزِ الدراساتِ العليا في واحةِ جغبوب، وبقيَ حتى قيامِ ثورةِ القذافي ١٩٦٩. ثم انتقل للعمل في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض وعمل أستاذا بها وفي نهاية حياته عمل ١٢ عاما متصلة بالسعودية، ولم يزر مصر في السنوات العشر الأخيرة منها إلا يوم وفاته التي كتب الله لها ان تكون في مصر .
آثاره:
١- دراسات لأسلوب القرآن الكريم
هو الكتاب الضخم الذي نال عنه الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة جائزة الملك فيصل العالمية. يقعُ في ثلاثةِ أقسامٍ في أحدَ عشرَ مجلّداً؛ جاء الجزء الأول وهو قسم الحروف في ثلاثة أجزاء، والقسم الثاني دراسة الجانب الصرفي في أربعة أجزاء، والقسم الثالث دراسة القسم النحوي في أربعة أجزاء أيضاً،، طبع هذا الكتاب في أحد عشر مجلداًّ. تزيدُ صفحاتُ كلِّ مجلدٍ عن ستمائةٍ صفحةٍ، وبعضها تجاوز سبعمائة صفحة، وبعضها الآخر تجاوز ثمانمائة صفحة.
وهذه بعض ملامح قصة هذا العمل على نحو ما رواها الشيخ عضيمة نفسه في مقدمات مجلداته:
– " …. كانتِ البدايةُ لهذا العملِ، في مكةَ المكرّمةِ، بلدِ اللهِ الحرامِ، في صفر سنةَ 1366هـ يناير 1947 "
– " ومَرَّ بخاطرِي أنَّ كثيراً من النحويينَ ألَّفُوا كتبَهم بمكةَ: أبو القاسمِ الزجاجيُّ ألَّفَ كتابَه "الجملَ" بمكةَ، وكانَ كلما انتهى من بابٍ طافَ حولَ البيتِ. ابنُ هشامٍ ألفَ كتابَه "مغني اللبيبِ" لأولِ مرةٍ في مكةَ، ثمَّ فُقِدَ منه في منصرفِه إلى القاهرةِ، ولمَّا عادَ إلى مكَّةَ ثانيةً ألَّفه للمرَّةِ الثانيةِ"
– " … تمنيتُ أن تكونَ هذه الدراسةُ لها صلةٌ بالقرآنِ الكريمِ، ليكونَ ذلك أليقَ وأنسبَ بهذا الكتابِ المقدَّسِ. خطرَ ببالي خاطرٌ، هو أن أنظرَ في استعمالِ القرآنِ لبعضِ حروفِ المعاني، فمثلاً "إلا" الاستثنائيةُ لها وجوهٌ كثيرةٌ في كلام العربِ، فهل استعملَ القرآنُ هذه الوجوهَ كلَّها أو بعضَها دونَ بعضٍ". من هنا مكاناً وزماناً بدأت فكرةُ هذا العملِ الموسوعيِّ، وبدأ صاحبُها في العملِ منذ ذلك التاريخِ" .
تتويج الكتاب
– كتب الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة مقدمة العمل النهائية في 25أغسطس 1981
– في ١٩٨٢ أعلَنَتِ الأمانةُ العامَّةُ لجائزةِ الملكِ فيصلٍ العالميّةِ للدراساتِ الإسلاميّةِ عن أن موضوعَ الجائزةِ للعامِ القادمِ في مجالِ الدراساتِ الإسلاميّةِ هو الدراساتُ القرآنيةُ. ورشحتْ كليةُ اللغةِ العربيةِ بجامعةِ الإمامِ محمّدِ بنِ سعودٍ الإسلاميةِ كتابَ "دراساتٍ لأسلوبِ القرآنِ الكريمِ" لنيل الجائزةِ.
– في ١٩٨٣ أعلن فوز الشيخِ محمد عبد الخالق عضيمةَ بجائزةِ الملكِ فيصلٍ العالميةِ للدراساتِ الإسلاميةِ لعامِ 1403هـ.
من أقوال الشيخ عضيمة عن منهجه
– "إذا قرأَ النَّاسُ القرآنَ الكريمَ للتدبُّرِ والعبرةِ ونيلِ الثوابِ فلا يشغلُني في قراءةِ القرآنِ إلا الجانبُ النحويُّ، تشغلُني دراسةُ هذا الجانبِ عن سائرِ الجوانبِ الأخرى. أهوى قراءةَ الشعر، وأحرصُ على حفظِ الجيِّد منه، ولكنَّ جيِّدَ الشعر الذي يصلح لأن يحلَّ محلَّ شواهدِ النحو له تقديرٌ خاصٌّ في نفسي. ورحمَ الله ثعلباً فقد قالَ: اشتغلَ أهلُ القرآنِ بالقرآنِ ففازوا، واشتغل أهلُ الحديثِ بالحديثِ ففازوا، واشتغلَ أهلُ الفقهِ بالفقهِ ففازوا، واشتغلت أنا بزيدٍ وعمرٍو، فيا ليت شعري ماذا تكونُ حالي في الآخرةِ".
– " لا يجملُ بالمتخصِّصِ في مادَّتِه العاكفِ على دراستِها أن تكونَ طبعاتُ كتابِه صورةً واحدةً لا أثر فيها لتهذيبٍ أو قراءاتٍ جديدةٍ، فإن القعودَ عن تجديدِ القراءةِ سمةٌ من سماتِ الهمودِ، ولونٌ من ألوانِ الجمودِ ".
– " فحديثي اليوم إنما هو وحيٌ هذه التجربة، وثمرة تلك الممارسة والمعاناة، ولكلِّ إنسانٍ تجربته، فإذا كان لغيري تجربةٌ أخرى، أو رأيٌ آخر يخالف ما أذكرُه أو استفسارٌ فليكتب لي عن ذلك بعد الفراغ من المحاضرة، وعلم الله أنَّي لا أضيقُ بالرأيِ المخالفِ، وفي يقيني أنَّ المناقشةَ تنضجُ الرأيَ وتهذِّبَه
– " لقد سجَّلت كثيراً مما فاتَ النحويين، وليسَ من غرضي أن أتصيَّد أخطاءهم، وأردَّ على ها، ولسْتُ أزعم أنَّ القرآنَ قد تضمَّن جميعَ الأحكامِ النحويةِ، فالقرآنُ لم ينزل ليكونَ كتابَ نحوٍ، وإنَّما هو كتابُ تشريعٍ وهدايةٍ، وإنَّما أقولُ: ما جاءَ في القرآن كانَ حجّةً قاطعةً، وما لم يقعْ في القرآنِ نلتمسُه في كلامِ العربِ، ونظيرُ هذا الأحكامُ الشرعيةُ ؛ إذا جاءَ الحكمُ في القرآن عُملَ به، وإن لم يرد به نصٌّ في القرآنِ التمسناه في السنَّةِ وغيرها ".
انحيازه للاستشهاد بالقرآن الكريم قبل الشعر
أخذ الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة على سيبويه قلة استشهاده بالقرآن مقارنة بالشعر؛ فيقول: «ولو قيس استشهاده بالشعر؛ لوجدنا الشعر قد غلب على ه واستبد بجهده؛ فشواهده الشعرية كما ذكر أبو جعفر النحَّاس في شرحه للشواهد (1050)، وهي في النسخة المطبوعة بمصر (1061) على حين أن استشهاده بالقرآن لم يتجاوز (373)، وذلك كإحصاء الأستاذ النجدي(الأستاذ على النجدي ناصف) في كتابه عن سيبويه ص235، وكذلك صنع المبرد في المقتضب»! وكان الشيخ عضيمة يقول: «….. وكان تعويل النحويين على الشعر ثغرة نفذ منها الطاعنون على هم؛ لأن الشعر رُوي بروايات مختلفة؛ كما أنه موضع ضرورة. لهذا مست الحاجة إلى إنشاء دراسة شاملة لأسلوب القرآن الكريم في كل رواياته؛ إذ في هذه القراءات ثروة لغوية ونحوية جديرة بالدرس، وفيها دفاع عن النحو؛ تعضد قواعده، وتدعم شواهده»!
نماذج للاستدراكات التي سجلها على النحاة
كان الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة يقول بكل جسارة: " من هنا نعلم ونوقن؛ أن النحاة اجتهدوا؛ فأصابوا في بعض، وأخطأوا في بعض؛ وأن العصمة اللغوية والنحوية؛ كل العصمة؛ ليست للنحاة، ولا للشعر، ولا لكلام العرب؛ وإنما للقرآن العظيم، وما ورد فيه من قواعد لغوية خالفت نحو النحاة، أو تفرّدت فلم يدرسها سيبويه وتلامذته في كل العصور؛ فمن ثم؛ وجب لفت الأنظار إليها، وتقعيدها، ودراستها من جديد؛ وفق منهجية جديدة، وآلية مغايرة.
وهذه ثلاثة أمثلة سريعة اخترناها من دراسة الشيخ الجليل :
– «وللنحويين قوانين كثيرة لم يحتكموا فيها لأسلوب القرآن؛ فمنعوا أساليب كثيرة جاء نظيرها في القرآن؛ من ذلك: منع النحويون وقوع الاستثناء المفرّغ بعد الإيجاب، وعللوا ذلك؛ بأن وقوعه بعد الإيجاب يتضمن المحال أو الكذب! وفي القرآن ثماني عشرة آية وقع فيها الاستثناء المفرغ بعد الإيجاب، وفي بعضها كان الإيجاب مؤكداً؛ مما يبعد تأويله بالنفي؛ كقوله تعالى: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) (آل عمران:45)، و(وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) (آل عمران:143)، و(لتأتنني به إلا يحاط بكم) (يوسف:66).
– «كذلك منع النحويون أن يجيء الاستثناء المفرغ بعد (ما زال) وأخواتها، وجعله ابن الحاجب، والرضي من المحال، وعللا ذلك! وهذا المحال في نظر ابن الحاجب والرضيّ؛ جاء في قوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطَّع قلوبهم) (التوبة:110) والعجيب أن المفسرين والمعربين اعتصموا بالصمت؛ فلم يتحدث واحد عن الاستثناء في هذه الآية»!
– ذكر سيبويه قبح (كل) المضافة إلى نكرة في أن تلي العوامل؛ فقال: «أكلت شاة كل شاة حسنٌ، وأكلت كل شاةٍ ضعيف»! وقد جاءت كل المضافة إلى النكرة مفعولاً به مؤخراً في 36 آية، كما تصرفت في مواقع كثيرة من الإعراب»! وزاد عضيمة تفصيلاً؛ فأتى بنماذج قرآنية لـ (كل) خالفت فيها قواعد النحويين؛ مثال ذلك قوله سبحانه: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبِّر جبّار) (غافر:35) واجتمعت كل مع كم في قوله تعالى: (أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم) (الشعراء:7) وأريد بكلٍّ الخصوص والمبالغة في بعض الآيات».
٢- المقتضبُ للمبرّدِ، دراسةً وتحقيقاً:
– نشرتْه لجنةُ إحياءِ التراثِ الإسلاميِّ في المجلسِ الأعلى للشؤونِ الإسلاميّةِ في مصرَ في أربعةِ أجزاءٍ كبارٍ، ختمَه بفهارسَ رائعةٍ لمسائلِ النحوِ والصرفِ في الكتابِ، سهَّلَتِ الوصولَ إلى مسائلِه وقضاياه بيسرٍ وسهولةٍ . وقد نشرَ د. أمينُ على السيد عميد دار العلوم نقداً لعملِ الشيخِ في مجلةِ الكليّةِ، مخالِفاً الشيخَ في ترتيبِ المقتضبِ، وما ارتآه أنه إصلاحٌ له. لم يعقِّبِ الشيخُ على المقالةِ بشيءٍ، ولم يغيرْ من منهجِه شيئاً فقد نشرَ المقتضبُ بعدَ المقالةِ، بل في العامِ نفسَه نشرةً ثانيةً عام ١٩٨١، واستدركَ على نفسِه ما رأى إصلاحَه .
٣- فهارس كتاب سيبويه
كان هذا الكتاب هو اشهر كتبه قبل ان يصدر كتابه الضخم، ويقعُ كتاب فهارس كتاب سيبويه في إحدى عشرةَ وتسعِمائةِ صفحةٍ، وهو أكبر عملٍ لفهرسة كتاب نحوي، وقالَ الشيخُ في باعثِه على إنجازه: " ولمَّا أخرجْتُ المقتضبَ للمبرّدِ صنعْتُ له فهرساً مفصَّلاً ظفرَ بإعجابِ كثيرٍ من الباحثين، وطلبَ مني كثيرٌ من الأصدقاءِ أن أصنعَ لكتابِ سيبويهِ فهرساً مفصَّلاً على غرارِ فهرسِ المقتضبِ. طبعَ هذا العملُ في طبعتِه الأولى عام 1395هـ
٤- فهارسُ المخصّصِ والاقتضابِ وأدبِ الكاتبِ
هذه فهارسُ وضعها الشيخُ لهذه الكتبِ، على غرار فهارس كتاب سيبويه وفهارس المقتضب، جاءَت فهارسُ المخصَّصِ في مجلدين، والاقتضابِ وأدبِ الكاتبِ كلِّ واحدٍ منهما في مجلَّدٍ واحدٍ
٥- فهارسُ مسائلِ النحوِ والصرفِ في [تفسير] معاني القرآنِ للفرّاءِ
نشرَ في العددِ الثالثَ عشرَ والرابعَ عشرَ من مجلةِ كليّةِ اللغةِ العربيةِ بالرياضِ .
٦- المذكّرُ والمؤنّثُ لابنِ الأنباريِّ؛ دراسةً وتحقيقاً .
نشرتْه لجنةُ إحياءِ التراثِ في المجلسِ الأعلى للشؤونِ الإسلاميَّةِ في مصرَ، وخرجَ منه الجزءُ الأوَّلُ ١٩٨١ متضمنا استدراكات سجلها الدكتور رمضانَ عبدَالتوّابِ في بعضَ تخريجاتٍ للشواهدِ، وأضافَها في الطبع، ووضعَ بينَ قوسينَ (رمضان ) إشارةً منه إلى أنها من عملِه وهو لم يشاركِ الشيخَ في التحقيقِ، وكان الشيخُ يرى أنّه ليسَ من حقِّ أحد أن يضيفَ إلى عملِه دونَ علمِه
٧- المغني في تصريفِ الأفعالِ:
نشرَ لأوَّلِ مرةٍ عامَ ١٩٥٥، ثم نشرَ بعدَ ذلك عدةَ مراتٍ، وختمَه بنماذجَ من أسئلتِه لطلابِ كليّةِ اللغةِ العربيةِ في الأزهرِ عام 1957، وعام 1958 م، وعام 1959م. من منشورات الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
٨-اللبابُ من تصريفِ الأفعالِ:
طبعَ عدَّةَ طبعاتٍ، وخرجَتِ الطبعةُ الخامسةُ في شعبان سنةَ 1391هـ في مطبعةِ السعادةِ في مصرَ، وهو كتابٌ متوسِّطٌ الحجم.
٩- أبو العباس المبرد وأثره في علوم العربية
رسالة الدكتوراه، ومن الجدير بالذكر أن مكتبةُ الرشدِ طبعتها بعدَ وفاةِ الشيخِ ولم يتسنَّ للشيخ مراجعتُها كما ينبغي، ولم تصنعْ لها الفهارسُ التي كانَ الشيخ قد حرص على ها في الكتب الأخرى .
المقالات المنشورة في مجلةِ كليةِ اللغةِ العربيةِ بالرياضِ
1- الأحنف بن قيس.
2- أسلوب الاستثناء في القرآن الكريم.
3- تجربتي في تحقيق التراث.
4- تجربتي مع كتاب سيبويه.
5- أبو حيان وبحره المحيط.
6- جموع التكسير في القرآن الكريم.
7- دراسات لأسلوب القرآن الكريم.
8- فهارس مسائل النحو والصرف في معاني القرآن للفراء.
9- القلب المكاني في القرآن الكريم.
10- لمحات عن دراسة السين وسوف في القرآن الكريم.
11- لمحات عن دراسة العدد في القرآن الكريم.
12- مع أساليب القرآن الكريم.
13- النحو بين التجديد والتقليد.
14- نظرات في أبنية القرآن الكريم.
١٥- ردٌّ على مقالِ: لماذا احتقرَ النحويّون المرأةَ ؟)، وهي ردٌّ على د. عدنان رشيد، الذي كتبَ مقالةً في جريدةِ الجزيرةِ تحملُ هذا العنوانَ، فما كانَ من الشيخِ إلا أن ردَّ على ه بهذه المقالةِ،
١٦- "الأستاذ محمود محمد شاكر: كيف عرفته" ونشرت ضمن كتاب دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أبو فهر بمناسبة بلوغه السبعين
الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراة
كان الشيخ عضيمة نموذجا بارزا للأستاذ الجامعي التي تتبلور موهبته الأكبر فيما يشرف على ه من رسائل جامعية متكاملة مع بعضها، وهو طراز من الأستاذية لا يجد بيئته المواتية إلا في مراكز البحث العلمي التي لا تنشغل بالمتابعة اليومية للمحاضرات والامتحانات، وتضمن تهيئة دائبة لأدوات البحث العلمي، وتيسر الاتصال بالمكتبة وأوعية المعلومات، وتحفظ للأستاذية حقوقها من دون الإكثار من الأعباء التقليدية، وهو مناخ نجحت بعض الجامعات العربية في تشجيعه بهدوء ومن دون ضجيج .
– آراء أبي عمرو بن العلاء النحوية واللغوية ؛ جمعها ودراستها؛ تقدم بها المعيد حسن بن محمد
– الزجاج ومذهبه في النحو ؛ تقدم بها المعيد عبدالرحمن بن صالح السلوم
– تحقيق القسم الأول من كتاب سفر السعادة وسفير الإفادة لعلم الدين السخاوي، وتقدم بها محمود سليمان عبيدات
– دراسة نحوية لكتاب إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب، وتقدم بها يحيى بشير مصري
– أثر اختلاف اللهجات العربية في النحو ؛ تقدم بها يحيى بن على صالح، وأشرف على ها الشيخ عضيمة بالاشتراك مع د. عبدالغفار حامد هلال، .
– سيبويه في لسان العرب تقدم بها د. عبدالله بن سالم الدوسري
رأي الأستاذُ محمود شاكر في كتابه دراسات لأسلوب القرآن الكريم
– " كتاب لم يسبقه إليه أحد، واستغرق تأليفه نحو خمسة وثلاثين عاماً، وقد عرّفه مؤلفه بأنه معجم نحوي صرفي للقرآن. قال في مقدمة كتابه: «هذا بحث رسمت خطوطه، ونسجت خيوطه بقراءتي، استهدفت أن أصنع للقرآن الكريم معجماً نحوياً صرفياً: «فماذا يقول القائل في عمل قام به فرد واحد، ولو قامت على ه جماعة لكان لها مفخرة باقية؟ فمن التواضع أن يسمّى هذا العمل الذي يعرضه على ك هذا الكتاب معجماً نحوياً صرفياً للقرآن العظيم»،
– " فالحصر والترتيب مجرّد صورة مخططة يعتمد على ها. أما القاعدة العظمى التي يقوم على ها فهي معرفة واسعة مستوعبة تامة لدقائق علم النحو وعلم الصرف وعلم اختلاف الأساليب، ولولا هذه المعرفة لم يتيسر لصاحبه أن يوقّع في حصره من حروف المعاني وتصاريف اللغة على أبوابها من علم النحو وعلم الصرف وعلم أساليب اللغة.
– وهذا العمل الجليل الذي تولاه أستاذنا الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة …لم يسبقه إليه أحد، ولا أظنّ أنّ أحداً من أهل زماننا كان قادراً على ه بمفرده، فإن الشيخ قد أوتي جلداً وصبراً ومعرفة وأمانة في التحري لم أجدها متوافرة لكثير ممن عرفت"
– «والشيخ ـ حفظه الله ـ لم يترك مجالاً للاستدراك على عمله العظيم، فكل ما أستطيع أن أقوله إنما هو ثناء مستخرَج من عمل يثني على نفسه».
شهادات العلماء في حقه
– قال عنه الدكتور على أبو المكارم (1936 -2015) إنه عالم العلماء؛ وكتابه هذا أفضل كتاب نحوي، ولغوي في الخمسين سنة الأخيرة»!
– وقال عنه العلَّامة حسين مجيب المصري (1916 – 2004 ) عميد الدراسات الشرقية: «كنتُ كلما نظرتُ في سبحات عمله الفريد هذا؛ أوقن أنه مؤيَّد من السماء؛ بسبب إخلاصه، وهيامه بالقرآن والفصحى! فعمله هذا يضعه في مصاف الخليل، وسيبويه، وعبد القاهر، والزمخشري، وابن النقيب، ومحمد عبده، ومحمود شلتوت!
– وصفه البحَّاثة الأردني عصام الشنطي (1929 -2012 ) فقال: «هو في تنظيره، وتقعيده؛ كعبد القاهر في الدلائل، والأسرار؛ عبقريةً كعبقرية، وموسوعية كموسوعية، ورأساً برأس»!
– وقال الأستاذ صلاح حسن رشيد: "لا نجد في العصر الحديث من أخلص متجرِّداً للقرآن الكريم كما فعل العلاّمة الأزهري محمد عبد الخالق عضيمة (شيخ اللغة، وإمام نحاة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين؛ بكتابه العمدة النادر «دراسات لأساليب القرآن الكريم» مصححاً للنحاة ما وقعوا فيه من أخطاء، ودالاً لهم على الطريق الصحيحة لإمداد الفصحى بشرايين البقاء. استغرق الشيخ عضيمة ربع قرن في تأليفه؛ مجاوراً للحرم المكي الشريف؛ كعادة القدماء، على ضوء استيعاب علم المعاني والأساليب، وتطبيقه نحوياً، ولغوياً، وأسلوبياً، وإحصائياً، ودلالياً؛ وهو جهد تعجز الجامعات، والمؤسسات، والمجامع اللغوية عن إنجازه.
رواية زميله الدكتور أحمد كحيل عن يوم مناقشته
روى زميله الدكتور أحمد كحيل ذكرياته عن مناقشته لرسالته فقال: "وفي يومِ مناقشةِ الرسالةِ دخلَ إلى لجنةِ المناقشةِ يحملُ الرسالةَ وبعضَ المراجعِ، ودخلَ خلفَه أحدُ أقربائِه يحملُ حقيبةً كبيرةً، وفي أثناءِ تقديمِه للرسالةِ فتحَ الحقيبةَ، وأخرجَ منها لفائفَ البطاقاتِ، ووضعَها أمامَ اللجنةِ، وقالَ: هذه آراءُ المبرّدِ مستخرجةً من كتابِ المقتضبِ، وهذه آراؤه مستخرجةً من الكاملِ، وهذه آراؤه مستخرجةً من خزانةِ الأدبِ للبغداديِّ، وهذه آراءٌ يذهبُ فيها مذهبَ سيبويهِ مقرونةً بنصوصِ سيبويهِ، والحقُّ أنَّه بهرَ اللجنةَ؛ إذ لم ترَ طالباً قبلَه يعتمدُ على نفسِه، ويطّلعُ على هذه المراجعِ، وبعدَ مناقشةٍ طويلةٍ ظهرَ للجنةِ ذكاؤُه وسرعةُ بديهتِه وفهمِه لكلِّ جزئيةٍ من جزئياتِ الرسالةِ، فتمنحُه اللجنةُ الشهادةَ العالميةَ "الدكتوراه" بدرجةِ ممتازٍ، وكانَ أوَّلَ من أخذَ درجةَ امتيازٍ ".
تكريمه
نكرر القول بأنه على عكس الشائع فقد نال الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة كثيرا من التكريم والتقدير في وطنه، ومنح وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى من الأزهر الشريف. ونكرر أن أكبر تكريم كان هو جائزة الملك فيصل العالمية عن العام الهجري 1403، وقد فاز بمفرده بجائزة الدراسات الإسلامية لذلك العام عن كتابه «دراسات لأسلوب القرآن الكريم»، الذي استغرق في تأليفه معظم عمره الأكاديمي، والذي وصفته اللجنو بأنه معجم نحو وصرف للقرآن الكريم من 11 مجلدا.
ذريته
أنجبَ الشيخُ ثمانيةً ثلاثةُ أبناءٍ؛ هم: صفيُّ الدينِ، وأيمنُ والمعتزُّ باللهِ، وخمسُ بناتٍ؛ هنَّ: صفيةُ وسوسنُ وسعادُ وآياتُ وهناءُ.
وفاته
كان الشيخُ قد بقيَ في كليةِ اللغةِ العربيةِ بالرياضِ أكثرَ من عشرِ سنواتٍ، جرتْ عادتُه ان يقضي الأسبوع الأول من إجازة نصف العام في مكة المكرمة ثم يسافرُ إلى المدينةِ المنوّرةِ ليقضيَ فيها الأسبوعَ الثاني. وفي عام 1404هـ قرر ان يقضي تلك الاجازة بالقاهرة كانت الإجازةُ تبدأ بنهايةِ دوامِ يومِ الأربعاءِ لكنه رغبَ في تقديمِ سفرِه لظروفِ الحجزِ والطيران، فسافرَ يومِ الثلاثاء تصحبُه زوجتُه. وبعد وصولِه القاهرةَ استقبله ابنه، ووقعَ لهم حادثُ في المطار، إذ أقبلَت سيارةٌ كبيرةٌ فاصطدمت بسيارته وأصيبَ بالإغماءِ، وفقدَ وعيُه، ونقلَ إلى مستشفىً قريبٍ، ولكنه ظلّ مغمىً على ه إلى إن انتقلَ إلى رحمةِ الله في 12يناير 1984
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.