ركز جورجيو قسطنطين في روايته "الساعة الخامسة والعشرون" على مناقشة مكانة الإنسان في ظل التطور التقني، حيث تحدث عن دور الإنسان الذي بدأ يقل مع ظهور التقنية، باعتبار أن الآلات لا تتقبل الفوضى والإهمال اللذين يميزان الإنسان، كما أنها لا تحتمل الكسل الإنساني، إذ صارت تعوضه بأكثر مما كان يستطيع، وبالتالي صار الإنسان غير قادر على مضاهاة متطلبات العامل التقني، وقد ناقش الكاتب هذا الموضوع لما كان البطل موريتز يعمل في أحد المعامل الألمانية، وفي هذا الصدد قارن الكاتب بين الإنسان والإنسان الآلي، واعتبر بأن هذا الأخير لا يمكن أن ينطبع برغبة الإنسان، ولابد للإنسان أن يساير رغبات الإنسان الآلي إذا أراد أن يستفيد منه، لأن العامل الآلي كامل، بينما الإنسان ليس كاملا، ذلك أن الآلات تُعلم الترتيب والنظام والكمال.
وصف الكاتب الإنسان على أنه يتمتع بطيب النفس وخبثها، وبعض البشر يميل للطيبة، والبعض الآخر يميل للخبث، لكن البشر جميعا يجمعون بين الإثنين. لكن بعد أن حلت الحرب سيصير هذا الإنسان بكل صفاته مجرد عبد. كما أشار الكاتب إلى أن الإنسان يظل بعيدا عن الكمال رغم تقدم العلوم. ومن جهة أخرى سيفقد الإنسان كل إنسانيته، وذلك لما صار معرضا أن يوضع في المتاحف على غرار الطيور والحيوانات، وقد تحدث الكاتب عن إمكانية إقامة حدائق لصيانة أنواع الإنسان، واستدل الكاتب بما فعلته أمريكا في حق الهنود الحمر، لما احتفظت بعينات منهم، واستنكر الكاتب أن ألمانيا تفكر في إنشاء مثل هذه المتاحف إذا انتصرت في الحرب، وقد تمت مناقشة ذلك في سياق اكتشاف انتماء بطل الرواية موريتز للفصيلة البطولية.
لقد استنكر الكاتب غياب العدالة على الأرض، على إثر الحديث عن الموقف الذي قام به موريتز ضد النازيين، وذلك لما ساعد خمسة فرنسيين على الهرب، ورغم ذلك تم التعامل معه كعدو، واعتبر الكاتب أنه لا فائدة من الحياة بعد غياب العدالة، وخصوصا لما اعتبر هؤلاء الخمسة موريتز بمثابة عدو لهم من منطلق أنه يعمل مع الجيش النازي، وظلت صفة العدو ملتصقة به رغم ما فعله ضد النازيين. وفي سياق آخر تحدث الكاتب عن موقف الرهبان داخل الكنيسة، والذي صار موضع تساؤل، على اعتبار أن ما يدافعون عنه قد يتنافى مع ما تفرضه الحرب، لأن الحرب لا تستثني أحدا، ولا يفوز فيها سوى القوي، وبالتالي فموقف الكاهن هو أن يصلي من أجل أي كان بغض النظر عما يمثله، وقد واجه أهل القرية الكاهن واعتبروا أن صلاته إذا لم يستثن منها الأعداء وستالين واحد منهم، فسيبتعدون عن الكنيسة.
تحدث الكاتب عما تعرض له الانسان خلال الحرب العالمية الثانية خصوصا عملية التنقل بين سجون المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، وهو ما تعرض له بطل الرواية موريتز وصديقة تريان ابن القس
أشار الكاتب إلى أن الحضارة الغربية في مرحلتها التقدمية الأخيرة لا تحفل بالفرد، ولا يعرف المجتمع الغربي إلا بعض المقاييس عن الفرد، ولا وجود للإنسان المتكامل بصورة فردية في هذا المجتمع. ثم إن الحرب أدخلت الإنسان في متاهات السجون دون أن يقترف شيئا يستحق، وأقصى درجات الإحصاء في المجتمع هو اعتبار الفرد مجرد مواطن انطلاقا من انتماءاته، ولا يتم التعامل مع الإنسان إلا من خلال ما ينتمي إليه. ولقد صار الغرب ينظر إلى الإنسان من وجهة نظر التقنية، ولم يعد أي وجود للإنسان القادر على الشعور بالفرح والألم، فتوقيف الناس خلال الحرب العالمية الثانية لا يعتبر جرما من وجهة نظرهم، لأنهم عاجزون عن الاعتراف بالرجل الحي، وصار الإنسان مجرد رقم لديهم، وقد صار التعامل بالآلات يفقد الإنسان إنسانيته، وبات الإنسان خاضعا للقوانين والمقاييس الآلية، وكتب قسطنطين يقول: "لقد خلق الغرب حضارة تشبه الآلة وهو يرغم الإنسان على الحياة في صميم هذا المجتمع ويدعو إلى التطبع بطبائع الآلات وقوانينها. لكنهم بذلك يقتلون الإنسان بإخضاعه للقوانين التي تهيمن على الشاحنات والساعات".
لم يعد للإنسان أية قيمة لدى المجتمع التقني، كما هو الحال لدى المجتمعات البربرية، وتوقيف الناس خلال الحرب لا يعني سوى أنهم مجرد أرقام، ولا يتم الاكتراث لإنسانيتهم، ولعل هذا العزاء وصفه الكاتب بأنه العزاء الأوحد في هذه الساعة المتأخرة من التاريخ. وفي سياق آخر ذهب الكاتب إلا أنه ليست هناك زاوية نظر لا يمكن للإنسان أن يحكم منها، وأن الحقائق الموضوعية لم تعد موجودة في العالم، فصار كل ما فيه ذاتي. "إن الكائن البشري لا يجد أشياء عادلة إلا حسب وجهة نظره الشخصية". لقد ناقش الكاتب هذه الأمور في سياق تشبت تريان ابن القس بمبادئه قائلا: "يمكن لأي كان أن يبرهن لي على أن أسلوبي في الاحتفاظ بالحياة ليس أسلوبا حسنا، وأنا أتقبل أي نقد. لكنني لا أرتضي أن يدللني أحد على الطريقة التي يجب أن أعيش بها حتى لو اقتنع المتكلم بوجاهة رأيه وأراد أن يرغمني على اتباعه".
تحدث الكاتب عما تعرض له الانسان خلال الحرب العالمية الثانية خصوصا عملية التنقل بين سجون المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، وهو ما تعرض له بطل الرواية موريتز وصديقة تريان ابن القس، والذَين ابتهجا لا لشيء إلا لأنهما سينتقلان إلى المعسكر الغربي نظرا لما عاشوه في المعسكر الشرقي من عذاب، وجاء على لسان تريان: "إن من الجنون أن يبتهج المرء لأنه سيحبس في سجن دون آخر". ولعل ذلك كان حال أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث صار المرء مضطرا أن يختار بين السجنين. ثم أشار الكاتب إلى قدرة الإنسان على ترويض جميع أنواع الحيوانات، لكن هذه القدرة لا تنسجم مع ما سماه الكاتب ترويض المواطنون، والذين وصفهم بأنهم حيوانات جديدة ظهرت على سطح الأرض، واعتبر أن هذه الحيوانات لا تعيش في الغابات ولكنها تعيش في المكاتب، ورغم ذلك تبقى أشد قسوة وضراوة من الحيوانات المتوحشة، ذلك أن هذه الحيوانات جاءت نتيجة اتحاد الرجل مع الآلات، ولعل وجوههم تشبه البشر لكنهم يتصرفون كما تتصرف الآلات، ووصفهم الكاتب بأنهم سلالة غريبة اكتسحت الأرض. وقد تحدث الكاتب عن ذلك في سياق النقاش الذي جمع بين تريان وموريتز، وبما أن تريان كاتب فهو سعى لترويض المواطنين، لكنه سيفشل في ذلك بعد أن قبض عليه هؤلاء المواطنين وسجنوه فتوقف عن الكتابة، حيث سيكتفي بكتابة العرائض التي تخص مجموعة من المواضيع والقضايا التي تهم الإنسان. وسيكتب بالأسلوب الذي يحبه ويتقبله هؤلاء المواطنون الذين سجنوه، أي سيكتب حول المواضيع التي تناسب مساعيهم.
وصف الكاتب الحالة التي يتم بها التعامل مع السجناء أثناء عملية تنقيلهم عبر الشاحنات المكتظة، والتي لا يستطيعون فيها التنفس، ولعلهم بذلك أحياء وأموات في آن واحد، وشبه ذلك بالقافلة التي كان فيها يسوع المسيح عندما كان يتسلق هضبة غولغوتا
اعترف الكاتب بأهمية العقل في السيطرة على كل شيء، وكتب يقول: " إن انتصارات البشر كلها، منذ أن وجد على سطح الأرض، كانت انتصارات العقل. وبفضل العقل سنستطيع أخيرا، السيطرة على المواطنين في مكاتبهم". ذلك أن عدم ترويضهم سيدفعهم إلى تمزيق البشر، ولعل ترويض هؤلاء المواطنين حتى يصيروا أكثر رحمة مع البشر أعقد من ترويض الحيوانات، وهذا الفصل كما اعتبره الكاتب هو فصل الاحتضار وفصل العرائض من الساعة الخامسة والعشرون. وعبر هذه العرائض يصف تريان أوضاع السجن وما يعيشونه السجناء فيما يتعلق بمأكلهم ومشربهم، ولكن كتبها بأسلوب يسير لمصلحة المسؤولين، فهو مثلا ينتقد بسخرية كمية الأكل، والتي رغم قلتها يرى بأنهم ينبغي أن يقللوا منها.
لقد صار الاعتقال خلال الحرب أوتوماتيكيا، ولا يتم فيه الاكتراث لطبيعة الأشخاص وظروفهم، وهكذا لن يفلت منه أي كان، إذا كان ينتمي للفصيلة التي ينبغي إيداعها السجن، واعتبر الكاتب أن الاعتقال الآلي لا ينظر في استثناءات تتعلق بأولئك الذين يملكون أجسادهم في حالة معطلة، وبكل سخرية اعتبر الكاتب أنه من العدالة أن يكون كذلك، وذلك في إطار العرائض التي اكتفى بكتابتها. وبلغة تساير ما يريده المسؤولون يواصل تريان كتابة عرائضه حول كل المواضيع التي تهم السجن، ومن بينها أن يتم وضع كل أعدائهم في سجون وأن يعطوهم كمية قليلة من الغذاء، لأن هذا الحرمان من الغذاء سيجعل أعدائهم يصيرون مع مرور الوقت كائنات أنثوية، حيث ستتوقف الإفرازات الهرمونية ذات المفعول المزدوج؛ الآندروجين (أي الهرمون المذكر) والأستروجين (أي الهرمون المؤنث)، وكلما ضعفت الكبد تقوم بإتلاف هرمونات الآندروجين المتزايدة مع الاستمرار في الإبقاء على الهرمونات المؤنثة، وبالتالي فإن التكوين العضوي يبشر بتحول أنثوي. ولعل هذا نوع من السخرية التي استخدمها السجين تريان لينتقد الأوضاع التي صارت تعرفها السجون خلال الحرب العالمية الثانية، والتي يتم فيها حرمان الإنسان من المأكل والمشرب، فصار بذلك معرضا للأمراض والأوبئة.
لقد وصف الكاتب الحالة التي يتم بها التعامل مع السجناء أثناء عملية تنقيلهم عبر الشاحنات المكتظة، والتي لا يستطيعون فيها التنفس، ولعلهم بذلك أحياء وأموات في آن واحد، وشبه ذلك بالقافلة التي كان فيها يسوع المسيح عندما كان يتسلق هضبة غولغوتا، وهو نفس الأمر الذي صار يشترك فيه مع هؤلاء السجناء، لكنهم يختلفون في الوسيلة المستخدمة في هذا الصعود، فالمسيح كان يسير على أقدامه بينما هؤلاء السجناء يركبون حافلة آلية مكتظة بالبشر. وفي هذا الصدد استدل الكاتب بالحيلة التي يلجأ إليها القضاة لمعاقبة بريء، وهي إحاطته بمجرمين، وهذه الحيلة معروفة منذ القدم، واستدل الكاتب بما فعله اليهود في حق يسوع لما أحاطوه بمجرمين سيئي السمعة، بهدف جذب انتباه الجمهور إلى الناحية الأخرى خلال تنفيذ أحكام الإعدام، وهو ما صار يحدث خلال الحرب حيث يتم زج مجرمين بين عشرات الآلاف من الأبرياء، وهي خذعة صبيانية على حد وصف الكاتب، وكيفما كان الحال فالتاريخ لن يتذكر غير يسوع في مثل هذه الملاحم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.