علامات التوتر كانت تبدو على وجهه واضحة جلية وهو يجوب أنحاء مباني كلية الهندسة العتيقة سائلا بلهفة كل من يتوسم فيه العلم والمعرفة من طلاب وأساتذة قسم "الميكانيكا"، إجابة السؤال كانت ضرورية جدا ومحورية لينهي ذلك الطالب مشروع تخرجه بأحد مصانع الأغذية الشهيرة في موعده المحدد، ولكنه كان ما إن ينتهي من سؤاله ويكف عن الكلام ملتقطا أنفاسه بصعوبة ينتظر الإجابة الشافية إلا ويفاجأ بالمجيب المفترض ينفجر ضاحكا ثم يتركه ويرحل و آخر يرميه بنظرة ساخرة دون أن ينبث ببنت شفة.
قد يكون السؤال سخيفا تافها من وجهة نظر البعض أو مبالغا في دقته وعمقه من وجهة نظر الآخرين، إلا أن الكل اجتمع على الجهل بإجابته في مكان الاعتراف فيه بالجهل كالاعتراف بالإلحاد في المسجد بعد صلاة الجمعة "أنت مهندس.. كيف تجهل هذا أو لا تستطيع إصلاح ذاك أو حل المسألة تلك؟" هذا الاستنكار غالبا ما يواجهه ذلك الطالب البائس الذي دفعه تفوقه في الثانوية العامة مع شغف أمه وإصرار أبيه أن يسبق اسم ابنهما لقب "المهندس" يوما ما، يواجه الطالب تلك النظرة المبالغة في التقدير من أول يوم يلتحق فيه بدراسة الهندسة فيجد أهل منطقته البسطاء ينظرون إليه بإكبار وتبجيل وهو ذاهب إلى صفه الدراسي حاملا على كتفه "مسطرة حرف T" وقد خط شارب حديث تحت أنفه ونبتت لحيته على استحياء، فيمشي بين الناس مشية مقاتل "ساموراي" انتفض حاملا سيفه ليدافع عن أهل مدينته الضعفاء!
يتنامى هذا الشعور عند ذلك الطالب المسكين حين تكف والدته عن ذكر اسمه مكتفية بمناداته بالـ "باشمهندس"، ذاك اللقب الذي يحب والده كذلك أن يقدمه به لأصدقائه في المحافل والنوادي الاجتماعية المختلفة التي يضطر فيها هذا الشاب للإدلاء بدلوه في مواضيع وقضايا لم يكن يسمع عنها قبل ذلك، ولكن عليه أن يفعل وعلى المستمعين أن يرمقوه كذلك بنظرة إجلال وتقدير مهما بلغت سخافة كلامه ومنطقه، كيف ولا وهو "مهندس"!
من قال لا أعلم فقد أفتى فلا عيب إطلاقا في أن تعترف بجهلك لمن سألك في أمور لا تعلمها ولم تسمع بها من قبل حتى وإن استهجن السائل كونك مهندسا ولا تعرف
وكما عرف عن الراهب الروسي الشهير "راسبوتين" أنه كان يتعاطى كميات قليلة من السم القاتل يوميا حتى يتعود جسده عليه فلا يستطيع أحد أن يغتاله بالسم بعد ذلك، فطالب الهندسة يتعرض لمثل تلك الأنواع من السموم على شكل مناهج معقدة وأساتذة يستمتعون بزيادة تعقيدها، وامتحانات طلسمية تعجز أبالسة الجن والإنس عن حلها، لكنه يرغم نفسه في النهاية على هضم تلك السموم والتغلب عليها فيكتسب قوة عقلية يظنها خارقة يستتفه بها ويحتقر كل ما يعرض إليه من أنواع العلوم الأخرى.
أن تكون "مهندسا" ليست جريمة، إنما الجريمة الحقيقية أن تدفعك عقليتك الهندسية إلى اقتحام مجالات لا ناقة لك فيها ولا جمل وأنت مقتنع داخل نفسك أن كل شيء ما خلا "الهندسة" تافه بسيط تستطيع أن تتعلمه في يوم أو يومين، والكارثة أن يعزز المحيطون بك تلك القناعة داخل نفسك، فتضر نفسك وتضر غيرك بتصدرك جاهلا مجالات السياسة والاقتصاد والمحاسبة وأحيانا الطب.
العلم يا عزيزي المهندس لا ينتهي عند حد معين، فحتى كليم الله "موسى" – عليه السلام – لم يكن مصيبا عندما ظن أنه أعلم أهل الأرض جميعا كما روى (البخاري) من حديث (أبي بن كعب)، تناولك المر والعلقم في سنوات دراستك الهندسة ربما أكسبك مناعة وفاعلية وجرأة على دراسة غيرها من العلوم، لكنك إن وجدت في نفسك الرغبة في اقتحام مجالات علمية جديدة فعليك تعلمها على أيدي المتخصصين من أهلها، والقعود منهم مكان الطالب من أستاذه والسائل المتلهف من صاحب العلم.
واعلم أن طبيعة العلوم الإنسانية كعلم النفس والاجتماع والفلسفة والأدب والسياسة والاقتصاد مختلفة تماما عن طبيعة دراستك الجافة القائمة فقط على الحسابات والأرقام، ومن قال لا أعلم فقد أفتى فلا عيب إطلاقا في أن تعترف بجهلك لمن سألك في أمور لا تعلمها ولم تسمع بها من قبل حتى وإن استهجن السائل كونك مهندسا ولا تعرف، خاصة وإن كان ذلك السؤال كسؤال زميلك المسكين الحائر عن الكثاقة النوعية ودرجة اللزوجة الديناميكية للـ "كاتشب"؟
"ليس معي من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست بعالم" أبقراط، الطبيب اليوناني الملقب بـ "أبو الطب".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.