شعار قسم مدونات

بين يدي ذكرى رحيل مرسي

مرسي في حقول القمح

لعلّ من أكثر الأمور مشقة على السجين أن يأتيه خبر وفاة سجين مثله، حتى لو كان في بلد آخر أو سجن بعيد، فتماثل الحال ومكابدة الهمّ ذاته تشيع في نفس المرء نمطاً من التضامن التلقائي مع كل ضحية تعايش ما يعايشه، فكيف إذا كان المشترك معها أكثر من وحدة حال الأسر؟ وكيف إذا كان التقاطع بينهما قضية كبيرة وهماً جليلا؟ وكيف إذا كان الأسير الراحل (محمد مرسي)؟ الذي ذهب ضحية صدقه ونزاهته وتسامحه بعد أن أتت به أصوات الجمهور الحرة إلى الحكم لأول مرة في تاريخ مصر، مصر الواقعة على حدود فلسطين، المؤثرة بها سلباً أو إيجاباً وفقاً لطبيعة النظام الحاكم فيها.

 

حين جاءنا خبر رحيل الرئيس محمد مرسي ونحن في السجن العام الماضي كان إحساس القهر والعجز كبيرا، فأضعف الإيمان الذي يمكن أن يصدر عن المرء في مثل هذه الحالة لم يكن متاحا، أي الحديث والكتابة عنه، وكنتُ قد كتبت عنه نصاً أرفقته في رسالة لأهلي مع إحدى المحررات، لكنّ إدارة السجن صادرتها، وهي التي أبدى ضباطها فرحاً لافتاً بموت الرجل.

 

والحال أن التضامن الشعوري العالي مع الرئيس الشهيد مرسي إذ قضى في سجنه لم يقتصر على من يماثلونه حال الأسر، فرمزية الرجل تستغرق العالم، فكل ثورة مظلومة مسّها رحيله بالألم، وكل حرّ طال به طريق مجابهة الظلام اجتاحه شعور بالفقد عند سماعه الخبر، وكل تائق لتبدد أمد الثورة المضادة وصنيعها الشيطاني في بلادنا أحزنه أن يقضي الرجل قبل أن يتم الاقتصاص من ظالميه، وقبل إنصافه، وقبل نيله حريته والاستماع إليه وهو يشهد على واحدة من أشد مراحل التاريخ المعاصر قتامة، وعلى أصعب لحظات إجهاض الأمل لدى الأمة بأسرها، التي كانت تنتظر نتاج مخاض الربيع العربي في توق غامر.

blogs محمد مرسي (رويترز)

أما فلسطينيا، فينضاف إلى ذلك كله سبب آخر، وهو استحضار ذلك الألق الذي غمر فلسطين في العامين اللذين أعقبا سقوط مبارك، أحدهما كان عام حكم مرسي، وما نال غزة خلاله من بركات، وكيف كانت خلال حربها القصيرة الثانية مسنودة الظهر وهو تجابه العدو الصهيوني، ثم كيف اشتد عليها الحصار وأطبق الظلام على آفاقها بعد انقلاب 2013 الآثم.

 

ما كانت سلطة الانقلاب في مصر لتغضّ الطرف عن بقاء الرئيس الشرعي المنتخب، حتى لو كان حبيس سجنه، ففي بقائه حياً ما يقلق راحة الطغاة وينغص عليهم الهناء بإفرازات انقلابهم ومجازرهم، كان وجوده صفعة مستمرة على وجوههم، وطعناً في شرعيتهم المدعاة، وتعرية لمنطقهم الأجوف، وفضحاً لصورتهم الإجرامية وهي تمارس قهرها واستبدادها ودوسها على جميع أشكال الحرية والحياة في سبيل التمكين لنفسها، فكانت الصورة المقابلة التي يمثلها مرسي ومن معه تكشف عوار الآتين بعده، وتنبّه عموم الشعب إلى ما ضاع منهم، وما خسروه بحدوث الانقلاب، وكيف أُسدل الستار على عهد النهضة والانبعاث في مصر، وعادت لتعيش حالاً أسوأ من كل عهود الاستبداد السابقة.

 

لكل ذلك كان متوقعاً الخلاص من مرسي، إما بالحكم عليه بالإعدام، أو بقتله بطريقة ما، وقد اختارت سلطة الانقلاب أن تتخلص منه بطريقة تظنها ذكية وتجنبها فورة الغضب والإدانة محلياً ودوليا، ولعلّ نجله عبد الله قضى لاحقاً بالطريقة ذاتها، بعد أن تبين أن عموم الأسرة ذات مواقف صلبة وشجاعة، وغير مستعدة للمهادنة أو الخنوع طلباً للسلامة.

 

في رحيل مرسي، وقبلها في سيرته، الكثير مما يمكن أن يُقال، لكن الاستخلاص الأهم يظل في معنى ألا يغيب ذكر المرء وأثره برحيله عن الدنيا، وهذا يصدق في الشهيد محمد مرسي وفي آخرين غيره، قضوا مظلومين، بعد أن كانوا شوكة في حلق الطغيان، لأنهم وعوا أن الحياة مواقف، بها يكبر المرء ومعه قضيته أو يصغر، أما الطغاة وأذنابهم ممن تشربوا منهج الفتك بخصومهم نشداناً للراحة والاستقرار، فإن التسامح معهم خطيئة كبرى، وإن إحسان الظن بهم غفلة، والاعتقاد بإمكانية تحسن مواقفهم خفة وطيش. وفي انتظار أن تجري عليهم سنة القصاص والسقوط لا بدّ أن يظل التمايز عنهم قائماً والموقف منهم حاسما، ما بقيت هناك قبضة تواجه ظالماً أو جبهة عنيدة تناطح مرحلة الاستضعاف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.