لطالما شهدت العلاقات بين الصين والهند مواجهات ساخنة، سواء على مستوى النزاع الحدوي، أو على مستوى التنافس الاقتصادي والإقليمي. وباستثناء الحرب التي اندلعت بينهما في ستينيات القرن الماضي، فإن الجانبين حافظاً على قنوات اتصال دبلوماسية حالت دون أن يتطور الصدام مجدداً إلى نزاع مسلح.
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وفي أعقاب مناوشات على الحدود، زار رئيس الوزراء الهندي آنذاك راجيف غاندي، الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ في العاصمة بكين، واتفق الجانبان على تهدئة الأوضاع وتجاوز الخلافات، خصوصاً وأن كلا البلدين كانا في حاجة إلى بيئة مستقرة للمضي قدماً في مسار التنمية.
ورغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على ذلك الاتفاق، فإن أهمية الحفاظ على شعرة معاوية لاتزال حاضرة في أذهان ووعي قادة البلدين. فمع تجدد الصراع مؤخراً، ودخول قوات حدودية من كلا الجانبين في اشتباك بالأيدي، رفض وزير الدفاع الهندي راجناث سينغ، عرضا من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقيام بالوساطة في حل الخلافات القائمة. وأكد المسؤول الهندي قدرة الجانبين على حل النزاع عبر المحادثات.
دبلوماسية اليوغا
بالإضافة إلى توافق الرؤى حول ضرورة وضع الخلافات السياسية جانباً لتعزيز التنمية، فإن اعتبارات أخرى دفعت نيودلهي إلى اللجوء للطرق الدبلوماسية في تعاملها مع بكين، أهمها: تراجع القوة النسبية للهند أمام الصين، ورجوح كفة الأخيرة في الميزان التجاري والعسكري على حد سواء. (بلغت الموازنة العسكرية للصين 261 مليار دولار في العام الماضي، مقابل 71 مليار دولار للهند). لذلك سعت نيودلهي خلال العقود الماضية إلى فتح وتحديث قنوات اتصال غير رسمية لتعزيز علاقاتها مع المارد الصيني، وكانت رياضة اليوغا احدى هذه القنوات.
كان أول دخول لليوغا إلى الصين بداية سبعينيات القرن الماضي عبر حلقات يومية على شاشة تلفزيون الصين المركزي، على يد المدرب الصيني "جانغ خوي لان". وقد لاقت تجربته إقبالا كبيراً لتتحول الحلقات التلفزيونية إلى برنامج دائم يعاد بثه ثلاث مرات يومياً في منتصف الثمانينيات. بعد ذلك انتشرت مراكز تدريب اليوغا بكثرة في مختلف المدن الصينية (أكثر من 250 مركزاً في بكين فقط).
ويبدو أن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، قد رصد هذه الظاهرة في المجتمع الصيني، فسارع إلى فتح حساب خاص به على موقع "وي بو" المعادل الصيني لتويتر، يقوم من خلاله بنشر فيديوهات مصورة لليوغا الهندية (يتابع الموقع حوالي ربع مليون صيني).
رواج كبير
في عام 2015، افتتحت الهند أول كلية لتعليم اليوغا في الصين، وبعد أقل من عامين، تم افتتاح خمسين فرعا لها في المدن الصينية الكبرى مثل بكين وشانغهاي وكوانجو. وتجذب الكلية مجموعات من معلمي اليوغا الهنود إلى الصين سنوياً، وقد ساهم ذلك في انضمام عشرات الآلاف من الطلبة الصينيين لتعلم هذه الرياضة التي لاقت رواجاً وإقبالاً كبيرين في أنحاء البلاد.
في الواحد والعشرين من يونيو كل عام، يحيي الصينيون اليوم العالمي لليوغا، باعتباره مناسبة لا تقل أهمية عن المناسبات التقليدية الصينية، حيث يجتمع آلاف الطلاب من جامعات مختلفة في مقاطعة يونان جنوب غربي البلاد، ليقدموا عروضاً مثيرة وفقرات استعراضية احتفاء بهذه الرياضة. حيث بات كثير منهم ينظر إلى اليوغا باعتبارها رياضة روحية تدفع باتجاه التصوف والزهد والتأمل، وهو ما ينسجم مع تعاليم بوذا التي لايزال عدد كبير من الصينيين يلتزم بها.
عن هذه الظاهرة، يقول سينغا، أشهر مدرب هندي في الصين، إن اليوغا جسر للصداقة بين البلدين، ويمكن اعتبار ذلك شكلاً من أشكال ما يعرف بالقوة الناعمة، وأشار إلى أن الحكومة الهندية عملت خلال العامين الماضيين، على إرسال مدربين إلى الصين لتقديم دروس بالمجان للطلبة، وفي المقابل يذهب الكثير من الصينيين إلى الهند لتعلم اليوغا.
إذاً، يبدو أن الصراع التاريخي بين الجانبين لم يمنع الاختراقات والتسربات الثقافية والدينية عبر الحدود منذ أن دخلت البوذية إلى الصين عبر الهند قبل آلاف السنين. ولا شك في أن رياضة اليوغا واحدة من التسربات الثقافية التي برزت لاحقاً كإحدى أدوات الدبلوماسية الهندية المرنة في اختراق سور الصين العظيم، مستندة إلى إلى وقائع تاريخية، تؤكد أن ترييض السياسة أفضل من تسييس الرياضة، في نهج بناء وتطبيع العلاقات بين الدول.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.