لقد درسنا في تاريخنا الحديث، أصنافاً عدّة من أشكال الاحتلالات والوصايات والانتدابات، فرنسيّة وبريطانية وإيطالية وغيرها، وها هو تاريخنا الحاضر يعيد نفسه، فبعد السيطرة الروسيّة الفكريّة على سورية لخمسين سنة مضت بشكل مخفي، تحولت خلال السبع العجاف الماضية إلى سيطرة ظاهرة جليّة، أمّا اليوم فقد أخذت صورة هذا الاحتلال شكلاً آخراً بأبعاد مختلفة عمّا سلف.
الدمى المتحركة
لا يخفى على عاقل، أنّ الحكم السوري الداخلي والخارجي يُدار منذ سنوات بأمر الكرملين في روسيا، وأنّ تلك المسميات "رئيس سوري أو حكومة أو قيادة أركان"، إنّما هي صور هلاميّة لدُمى غبيّة، تثاقلت وأعاقت الحركة بيدِ مُحرّكها الروسي، وهذا ما جعل بوتين يضجر من حماقة وتقاعس عامله على دمشق بشار الأسد، ما يستدعي زجره بطريقة الوصاية عليه.
الكرملين في دمشق
إنّ تعيين بوتين مندوبه الخاص إلى سورية "ألكسندر يفيموف"، يحمل العديد من الإشارات المهمّة، التي ستنكشف حقائقها في الأيام القليلة القادمة، فتسمية مبعوثه ممثلاً رئاسياً (وإن كان معروفاً لدى روسيا ولكنه نادر التداول) يدلّ على استشعار حدث جلل، يحتاج إلى رقيب مباشر ذي ثقل بقدر المسؤولية، تتخطى علاقته عتبة الخارجية الروسية، لتصل إلى غرفة العمليات الرئاسية.
المندوب السامي والاقتصاد السوري
وتعيين صفة مقربة من الرئاسة الروسيّة يظهر رغبة روسيا في توسيع دائرة سيطرتها الفعليّة على سورية وفي كافّة المجالات، خاصّة بعد تلك المعارك الداخليّة بين الأسد ومخلوف والأخرس، والتي أرهقت كاهل روسيا، في زيادة الضخّ المالي لإبقاء هذا النظام على قيد الحياة، فبدل أن يساهم الأسد في إنعاش اقتصاد بلده المنهار، أغرقه في الخصومات العائليّة جرّاء الخلافات على حصص أطماعهم ونهبهم لخيرات سورية.
جبهة ليبيا تحتاج إلى قرار
ولا شكّ أنّ الجبهة الليبيّة لها علاقة في هذا الأمر، فقد وسّعت روسيا نطاق تدخلاتها بشكل إقليمي، فلم تنحصر جبهاتها في الساحل والداخل السوري (الوجهة الشرقية الأسيوية للمتوسط) فحسب، بل أرادتْ الهيمنة على الوجهة الجنوبية الإفريقية للحوض، عبر وقوفها مع قائد المجازر الليبية خليفة حفتر، فهذه التوسعات تحتاج إلى مرونة في الحركة، وسرعة في اتخاذ القرار، فكان تعين يفيموف مناسباً للأحداث.
حزيران المصيري
سيشهد شهر حزيران قرارات أممية حاسمة، بالنسبة للعقوبات على سورية عبر قانون قيصر، وتفاعل المجتمع الدولي (الخجل) معه، وهذه القرارات من الممكن أن تكون مصيريّة للشعب السوري، ولهذا لابدّ من قرار روسيّ ثابت على الأرض السورية، يحمي مصالحها وتواجدها وقواعدها، ومنصب سفير روسي قاصر على القيام بالمطلوب، فجاء قرار روسيا بتعين موظفها الجديد وبتلك الصفة، الذي سيكون بمثابة نائب عن الرئيس الروسي في دمشق، و "الجوكر" في حال نفوق بشار أو الإطاحة به.
من الإمارات إلى الجزار
ومن المهم أن نذكر أن "يفيموف" كان يشغل منصب سفير في الإمارات، وهذه الحيثية تحمل الكثير من المعاني، فالإمارات هي التي ما فتأت في مدّ جزار دمشق، والوقوف معه ضد شعبه المظلوم، وها هي اليوم تقف مع خليفة حفتر الذي يقتل أهله ويقصف المدنيين، بعَون من روسيا أيضاً، فهذا الحلف الإجرامي الروسي الإماراتي الأسدي الإيراني يتفاقم يوماً بعد يوم، فهل يستدعي هذا التحالف يقظة المسلمين والعرب في الحذر منه ومناهضته؟! فهذه هي الإشارات البارزة في تعيين مندوب روسي خاص في سورية، ليصبح في دمشق مثلث من الأعمدة الروسية لحكم دمشق (عبر الانتداب والوصاية) المندوب السامي الخاص، والسفير الروسي، ورئيس الأركان العسكرية في سورية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.