شعار قسم مدونات

إيدير.. أسطورة وصوت الفن الأمازيغي الذي سكت!

blogs إيدير

في قرية آيت لحسن بين جبال جرجرة الشامخة في منطقة القبائل الجزائرية، ولد خريف 1949 الفنان الجزائري حميد شريات المعروف بـ"إيدير" لعائلة بسيطة صديقة للطبيعة ربها راع غنم. ولد في بيئة هادئة كانت حافلة بالنسبة للطفل الذي كان ينتهي من دراسته فيعود مساء ليستمع ويستمتع بقصائد الغناء الشعبي ثم يحفظها من فم أمه وجدته، تلك القصائد التي كانت تحكي عن الأساطير والقصص المستمدة من عمق الثقافة الأمازيغية.

 

نحو الغناء بالصدفة

ذات يوم من عام 1973 في أيام الثانوية، تم استدعاء إيدير لكي يستبدل احدى مغنيات الإذاعة الوطنية في تسجيل أغنية قبائلية بعنوان "ارسد آيدس" (تعال أيها النوم)، كانت هذه اللحظة فارقة في حياته باعتبارها صدفة بداية حياة فنية كبيرة. بعد ذلك بثلاث سنوات وقبل أن يلتحق بالخدمة العسكرية، سجل إيدير أغنية "آ فافا إينوفا" التي لاقت نجاحا ساحقا، فصالت وجالت أنحاء العالم في وقت كان مغنيها يقبع في الثكنة العسكرية لدرجة أن لا أمه ولا قائد كتيبته كانا يعرفان أن ذاك الصوت هو صوته. وهكذا وبدل أن يصبح إيدير عاملا في مجال الجيولوجيا اختارته الأغنية ليكون فنانا.

 

آفافا إينوفا.. شهادة ميلاد فنان

تعتبر أغنية "آ فافا إينوفا" (يا أبي إينوفا) من رموز التراث الأمازيغي الذي حمل إيدير مهمة التعريف به للعالم، وهي أسطورة بربرية قديمة تحكي قصة فتاة جميلة تدعى "غريبة" تعمل طول النهار في الحقول ورعي الماشية ثم تعود متعبة في الليل إلى كوخها حيث تعيل إخوتها الصغار ووالدها العجوز "إينوفا" الذي يتردد في فتح الباب خوفا من "وحش الغابة"، لتقوم غريبة برج أساور يدها فيسمع والدها الصوت ويفتح الباب، ترتمي غريبة في حضنه باكية وتقول: "أخاف وحش الغابة يا أبي" ليرد العجوز: "وأنا أيضا يا بنتي" ثم يطلب الغفران من ابنته لأنها تركها وراء الباب في ظلمة الليل، ترجمت الأغنية لأكثر من 15 لغة ولقت صدى في 77 بلدا وكانت بكلماتها المعبرة ولحنها الهادئ أول أغنية قبائلية تصل العالمية معلنة وجود فن جميل في شمال إفريقيا لم يكن يعرفه أحد.

  

 

موسيقى عبقرية!

الفن الذي كان إيدير يمنحه للناس من نوع خاص، لقد كان فنا يقدس العادات والجذور وحكايات التراث التي غذت عقله منذ صغره، مجموعة أعماله تتحدث عن الطبيعة والبساطة وحياة البادية، "السندو" تتحدث عن يوميات نساء الأرياف اللاتي يمخضن حليب البقر، "لماذا هذا المطر؟" تقص حكاية الشتاء البارد والماء النازل ليغذي الأرض ويمسح دموع الناس، "كل هذا الوقت" تمجد قلوب الأطفال وحكايات الأجداد. إنها أغانيهت فنان لم ينس من أين أتى. تكمن عبقرية إيدير في كونه استطاع أن يستغل تراث أصله الأمازيغي -على محدوديته- ويقتبس منه فنا صالحا لبثه في ربوع العالم، وأيضا قدرته على تحويل لهجة يتكلمها بعض القوم في شمال المغرب العربي إلى كلمات وألحان عذبة قام بتصديرها نحو الخارج رغم كل العوائق اللغوية والسياسية.

 

فروع شامخة وجذور صلبة

لم يفوت "الدا حميد" -كما يلقبه أبناء عرقه- أي موعد على خشبات المسارح العالمية ليؤكد فيه افتخاره بأمازيغيته وبأصله وثقافته وكان بمثابة سفير الفن القبائلي في ربوع العالم، هذا الأمر عجل بتصادم منطقي بينه وبين النظام السياسي الذي كانت -ومزالت- الأقلية الأمازيغية تعتبره تهديدا لوجودها باتهامه بمحاولة "تعريب"البلاد وطمس معالم ثقافتهم، جعلت منه يغيب عن الجزائر لمدة أربعة عقود، مع ذلك كان إيدير مقتنعا بفكرة الجزائر الواحدة التي تسع الجميع ورافضا لفكرة الانفصال أو التمرد قائلا: "لا قبائل بلا جزائر ولا جزائر بلا قبائل". وبعد اقرار السلطات للأمازيغية لغة رسمية اعتبر ذلك مكسبا دستوريا لم يبق سوى للناطقين بها ما بقي لهم. لقد كان مثالا في التشبث والافتخار بالأصل دون تعصب أو تطرف.

  

بعد اندلاع حراك 22 فيفري سأل صحفي مجلة "Jeune Afrique" إيدير عن ثورة الياسمين وما يقوم به النظام البوتفليقي لمصادرتها، أجابه بجملة واحدة، يبدو أنها حكمة مكسيكية، قائلا: "إنهم يريدون دفننا، لكنهم لا يعرفون أننا بذور!"، توفي هذا الفنان الإنسان قبل ثلاث أيام أي في 02 ماي 2020 في باريس بعد أن غنى بألحانه للطبيعة والجمال والبساطة والسلام وبعد أن نعاه الجميع من فنانين ولاعبين وسياسين وبسطاء عرب وأمازيغ، وعلى الساعة التاسعة ليلا وضع إيدير ڨيتارته وقبعته السوداء المعتادة.. ثم سكت الصوت الجميل إلى الأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.