في خضم اتصالي بصديقي المقيم في النمسا لأطمأن عليه وعلى أحواله، في ظل الظروف الصحية التي يعيشها العالم، من تفشي وباء كورونا، أخذنا الحديث إلى جهود الحكومات العربية والغربية والآسيوية والإفريقية في مكافحة الجائحة، ومدى شفافية الحكومات الغربية في الإفصاح عن الوضع الصحي المؤلم الذي تعيشه بلادهم، وعن مدى شجاعة تلك الحكومات في مواجهة الأزمة أمام معارضيها والرأي العام كافة، وتطرقنا لنجاح عدد من تلك الحكومات كألمانيا والنمسا في الحد من انتشار الفيروس والخروج حتى الآن بأقل خسائر ممكنة، وهو ما يكشف عن وعي عالٍ وإدراك لخطورة الفيروس وميكانيكية عمله وطفرات نشاطه وبدايات خموله، ما يعني أن تلك الحكومات درست بشكل واعٍ الموقف العام لنشاط الفيروس ودرست معه أنماط سلوك شعبها ووضعت في الاعتبار الوضع الاقتصادي والأمن المجتمعي قبل أن تضع سياساتها.
فوجئت بصديقي يسألني: بعد كل هذا الإطراء، ما عساك أن تفعل لو كنت مواطنا في هذه الدول أو حتى مقيم؟ بلا تردد أجبت: أقل ما كنت سأفعل أن أكتب خطاب شكر لهذه الحكومة أو أكتب مقالا مادحا صنيعها أو أخرج في التلفاز أزكي صنيعها. فأجاب الصديق: لم أسمع حتى اللحظة من يقول: شكراً للحكومة على هذا الأداء البارع في إحدى الدولتين اللتين ذكرت، لا أحد يقول شكراً لكورتز، مستشار ألمانيا الشاب النشط، ولا أحد خرج كما أردت ليمدح القيادة الملهمة التي جابهت الفيروس بكل الحكمة، بل يرى الشعبان أن ما قامت به حكومتهم لا يتعدى الواجب المفروض عليهم وأن الإجراءات التي اتخذوها كانت مدروسة وملائمة للوضع والمرحلة، وإن لم تقم بما فعلت فعليها أن ترحل، إن لم يكن عاجلا فآجلا بصندوق الانتخاب، فكما عجلنا الانتخابات منذ أشهر، يمكن أن نعجلها ثانية.
لقد غيرت ثورات الربيع العربي كثيرا من طبائع الشعوب، وباتت محاسبة الحاكم والمسئول أحد عادات الشعوب، لذا تجد في المقابل القمع هو الرد المنطقي لدى المسؤولين |
إن مفهوم الشكر في هذه البلاد يختلف عما في بلادنا، فكورتز وأعضاء حكومته يتقاضون أجورا شهرية عالية للقيام بدورهم في سياسة أمور هذا الشعب، ويسهرون على راحته، وحفظ أمنه، والصحة من واجبات الحكومة وعليها أن تؤمن متطلباتها وتحافظ على حياة مواطنيها، لأجل هذا وجدوا في مناصبهم، وشكرهم يكون بأن يعطيهم الشعب فرصة أخرى لقيادة هذه البلاد.. انتهت المكالمة لكن المقال لم ينتهي. يحكى أن أحد الملوك استدعى الشعراء إلى قصره؛ فصادفهم شاعر فقير بيده جرة فارغة كان متوجهاً بها إلى النهر ليملأها، فرافق الشعراء إلى القصر لعلمه إكرام الملك للشعراء والإنعام عليهم، فلما رأى الملك الرجل وعلى كتفه الجرة وثيابه رثه، سأله: من أنت؟ وما حاجتك؟ فأنشد الفقير:
لما رأيتُ القوم شدوا رحالهم … إلى بحرك الطَّامي أتيتُ بجرتي
فقال الملك: املأوا جرته ذهباً وفضةً.. هذا موروثنا وفي ذلك من القصص كثير، قد يكون أشهرها عطايا هارون الرشيد للأصمعي وأبن أبي حفص (بكل بيت شعر عشرة آلاف درهم). لقد أوصلنا هذا الحال إلى أن تزلف المحكومين للحكام وخلعوا عليهم صفات الإله، فلا يعتري الرئيس المرض ولا يموت وقد يذهب أحدهم بمخيلته انه لا يأكل الطعام حتى لا يذهب للخلاء، فلا يستطيع أحد أن ينسى القضية التي اتهم فيها أحد الصحفيين عندما نشر خبرا عن صحة الرئيس السابق حسني مبارك، وكأن مبارك لا يمرض ولا يمكن أن يعتريه ما يعتري البشر، وتدرج الناس في تأليه حكامهم حتى وصل الحال بتأليه رئيس العمل، فكل رئيس في حياتنا إله.
لقد تفننا نحن العرب منذ أن حكمنا الملك العضوض في صناعة الحاكم الإله، وإن كان تراثنا الحقيقي ومنابع علمنا وحفظة ديننا أدبونا على غير ذلك، فهذا يقول لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا)، وقالت إحداهن لعمر: (قال تعالى ولو آتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً) فقال الرجاع أصابت امرأة وأخطأ عمر. لقد غيرت ثورات الربيع العربي كثيرا من طبائع الشعوب، وباتت محاسبة الحاكم والمسئول أحد عادات الشعوب، لذا تجد في المقابل القمع هو الرد المنطقي لدى المسؤولين تجاه من يسألهم، وتتنوع أشكال القمع وتتدرج بتدرج المسئولية وحجمها، لكن المستغرب أنه لا يزال أحدهم يطالب بتأليهه ويحث على ذلك رغم هذا التحول في طبائع الشعوب، لدرجة تسلل هذا السلوك إلى الجماعات الدينية، حتى أصبحنا نسمع شباب بعض الجماعات: بوس إيد المسؤول قبل ما هو يقول.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.