يرى أخصّائي النّمو يوري برونفينبرينر المتخصّص في مجال الطفولة أنّ النّموّ يحدث ضمن سياقات ومستويات تأثير متعددة وتبادلية والتي أدرجها تحت مسمّى النظرية الإيكولوجية، تبدأ دارجة بالتفاعل بين السياق المصغر الذي يشمل علاقة الطفل بوالديه وإخوته وأقرانه ومدرسته وأنماط التعلق (تعلق آمن، تجنبي، مضطرب) والأنماط الوالدية (التساهل، القسوة، الحزم) وأنماط الشخصية والمزاج والوراثة وغيرها، لتتسع فتشمل نطاق العائلة الممتدة والمدرسة والثقافة المجتمعية والإعلام ومنتهية بالسياق والحقبة التاريخية التي ولد فيها الطفل وانعكاس أهم مجريات هذه الحقبة من أحداث على تنشئة الأطفال (الحروب والأزمات مثالا).
نقطة جزئية أود الاسترسال فيها انطلاقا من نظرية برونفينبرينر هذه، فعلى غير الدارج من كون معظم الأمهات وندرة من الآباء هم من يكترثون بتطوير مهارات الرّعاية وممارستها مع أطفالهم (الحالة المثالية)، فعلى هذه الممارسة أن تكون مُهمّة مجتمعيّة يُساهم فيها جميع أفراد المجتمع وتعنى بتطوير مهارات كل فرد من أفراد المجتمع المسؤول عن إثراء تربية وتوجيه تنشئة الطفل.. فالعم والعمّة والخال والخالة والجدّ والجدّة، الأقارب، الأصدقاء، الجيران وحتى عابري السبيل الذين يتركون أثرا في حياة الطفل، تتداخل أدوارهم جميعا إما في تعزيز أسلوب تربية إيجابي أو نسف مساعي الوالدين الإيجابية أو تشتيت بعضها أو تهديدها، وزعْم بعض الآباء بتفردهم بهذه المهمّة ونجاحهم بها لوحدهم هو أمر غير صحيح وغير صحي بدرجة كبيرة، فنموّ الطّفل المعرفي والاجتماعي الصّحّي يتطلب أن تحدث عملية النّموّ ضمن هذه السياقات وحرمان الطفل منها أو من أي منها أمر مستحيل بالكلّيّة حيث لا بدّ وأن يتعرض لها عاجلا أم آجلا ومحاولة ذلك أمر صعب وغير انساني لأنك تحرم الطفل من فرص تعزز النمو السليم لديه مهما كانت هذه السّياقات تحمل في طيّاتها خبرات إيجابيّة أو سلبيّة فهي تعدّ متطلّب نموّ يضمن التّوازن والصّحة النّفسيّة تحت إشراف التوجيهات الوالديّة الحكيمة.
ممّا يشير إلى أنّ هذه الدّعوة نحو استعادة أفراد الأسر الممتدّة والمجتمع مكانتهم الحقيقيّة في عمليّة التّربية الصّحّيّة للأطفال تبرز من حاجة كامنة داخل هؤلاء الأفراد أنفسهم أي ذات باعث نفسي فطري داخلي |
ومن أشكال الإساءة التي تعرّضت لها المرأة غالبا هي حصر مهمة التربية في دورها فقط! فالطفولة تحتاج لأيادي تتناوب في رعايتها لأنّ يدا واحدة منهكة لن تضمن الصّحّة النّفسية ذات المستوى العالي للطفل، فحتى لو أرادت المرأة ذلك لن تتمكّن، حتى لو حاولت، بمفردها لن تستطيع، لأن الأم ليست آلة صمّاء خالية من الانفعالات والحالات المزاجية المتقلبة بفعل الظروف، فإذا كانت تحت وطأة فترة زمنية عصيبة كيف ستتمكّن من رعاية طفلها لو لم تمتدّ يد الأب مُعاونة والعمة مُلاعبة والخالة مُساندة والجدّة مُربية.
إنّ هذا التظافر قد كان خصلة حميدة تشتهر فيها العديد من المجتمعات قبلما ينهار هذا القوام التكاتفي الاجتماعي الساحر (إلّا ما ندر من حالات)، وذلك بدعوى نبذ الممارسات التقليدية وتسفيهها والتي قد تنتقل بالتلقّي أو التّقليد والمحاكاة من أيدي الجدّات إلى نفوس الأطفال الذين يرعوهم. وكأن الطفل كائن هش وعجين يتشكل بمنأى عن الكم الهائل للمعالجات المعرفية المعقّدة التي تحدث داخله بفعل التعرّض للبيئات الاجتماعية المختلفة. وكأن تلك الممارسات التّقليدية وحكمة الجدّات التّجريبية تُنسف عن بكرة أبيها لأنّ البعض وجد أنه قد خالطها شيء من الزور والخطأ! فبدل العمل على تصويبها تستثنى بالكلّية وتستبدل بدور الحضانات والرياض التي لن يجد الطفل فيها مهما بلغت كفاءتها ذلك المقدار من الحبّ والرّعاية المتفرّدة فهو طفل من بين مجموع كبير من الأطفال ينتظر من يطعمه ويرعاه وأمّا تبادل المشاعر والتجاوب العاطفي المخصّص ليس ذا أولوية لدى القائمين بالرعاية في تلك الدور!
إنه لمن الموصى به إعادة إحياء هذا التكاتف الاجتماعي والعمل على استيعاب وتصويب هفواته مقارنة بثماره الطيبة التي لا تكاد تعدّ ولا تحصى والتي تنعكس إيجابا على صحّة الطفل النّفسيّة من خلال النمو المعرفي الاجتماعي ضمن تلك السياقات البيئية والاجتماعية المختلفة. ويجدر الاسترشاد هنا بإحدى مراحل النّمو النّفسي المتقدّمة والتي وضعها العالم إريك إريكسون وهي مرحلة الإنتاجيّة مقابل الرّكود والتي تؤكّد إلى وجود حاجة لدى البالغين (مهما كانت أدوارهم ومكانتهم على السّلّم الاجتماعيّ آباء أو أجدادا أو رعاة آخرين) لأداء ممارسات الرّعاية والعناية بالآخرين مُشيرا إلى مبدأ التّبادليّة الذي يؤكّد على حاجة البالغين في هذه المرحلة إلى أن يكونوا محتاجا إليهم من قبل الآخرين والتي تتجلّى في مظاهر كثيرة كعناية الآباء بأبنائهم والأجداد بأحفادهم والمعلّمين بطلابهم والميل للقيام بأنشطة تطوّعيّة للمجمتع وغيرها من المظاهر.
ممّا يشير إلى أنّ هذه الدّعوة نحو استعادة أفراد الأسر الممتدّة والمجتمع مكانتهم الحقيقيّة في عمليّة التّربية الصّحّيّة للأطفال تبرز من حاجة كامنة داخل هؤلاء الأفراد أنفسهم أي ذات باعث نفسي فطري داخلي، الأمر الذي سينعكس إيجابا ولا بدّ على ممارسات التّربيّة والرّعاية والتي ستفوق أضعافا تلك الممارسات في دور الرّعاية والموجّهة بحوافز خارجيّة المنشأ، هكذا نخلص إلى أنّ تربية الأطفال كمهمّة تقع على عاتق جميع أفراد المجتمع تضمن الصّحّة النّفسيّة السّليمة للأطفال (برونفينبرنر) والبالغين من الرّعاة (إريكسون).
ربّوا تصحّوا !
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.