من خصائص القرآن الكريم أنّه كتابُ الإنسانيةِ كلِّها؛ الذي خاطب الله تعالى به جميعَ البشر إلى يوم القيامة، فلم يُقيّد بزمان، ولا بمكان، ولا جنس ولا طبقة، بل هو موجَّهٌ إلى الثقلين، خاطبهم جميعاً بما يسعدهم في الدنيا والآخرة من العقائد الصحيحة، والعبادات الحكيمة، والأحكام الرفيعة، والأخلاق الفاضلة؛ التي تستقيم بها حياتهم، ولقد تضافرت نصوصُ الكتاب والسنة وإجماعُ الأمة على عالمية القرآن.
ومن الآيات التي صرحت بعالمية القرآن العظيم قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]. وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقرآن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 89]. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقرآن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 27]. وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بَوَكِيلٍ ﴾ [الزمر: 41]، فالقرآن لا يخاطِبُ صنفاً واحداً من البشر له تجاه عقلي أو نفسي معين، مغفلاً عن عداه من الأصناف ذوي الاتجاهات المتعددة، كلا، إنه يخاطِبُ كل الأصناف، ويشبعُ كلَّ الاتجاهات الإنسانية السوية، في توازنٍ لا يقدر عليه إلا منزل القرآن، وخالق الإنسان.
1ـ إن طالب الحقيقة العقلية يجدُ في القرآن ما يرضِي منطقه، ويأخذ بلبه إذا سمعه يصيح بالعقل أن ينظر ويفكر في ملكوتِ السماواتِ والأرض، وما خلق الله من شيء.
· وأن يعتمـد على البرهـان وحـدَه فـي العقـليات. قـال تعـالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة:111].
· وعلى المشاهدة والتجربة في الحسيات، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 185].
· وعلى الصدق وتوثيق الرواية في النقليات، قال تعالى: ﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأحقاف 4].
· ويكفي أنَّ مشتقات العقل مثل ﴿يَعْقِلُونَ ً و تَعْقِلُونَ ﴾، ذكرت في القرآن ثمانياً وخمسين وذكرت مشتقات الفكر سبع عشرة مرة، وذكرت كلمة﴿الأَلْبَابِ﴾، أي: العقول ستّ عشرةَ وهذا غير الآيات التي اشتملت على كلمات ومشتقات أخرَ مثل: «النظر»، و«الاعتبار» و«التدبر» و«الحجة» و«البرهان» و«النهى» و«الحكمة» و«العلم» ونحو ذلك مما يبحث عنه طلاّب الحقائق العقلية، فلا يجدونه في كتاب ديني غير القرآن.
2ـ والباحث عن الحقيقة الروحية يجدُ في القرآن ما يرضي ذوقه، ويغذي وجدانه، ويشبِعُ نهمه وتطلعاته في افاق الروح، في مثل قصة موسى والعبد الصالح، الذي قال الله فيه: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 65]، يجد الباحثُ عن «الإيمان» في الخطاب القرآني ما ينشئ الإيمان البصيرَ بالله ورسالاته ولقائه وجزائه، ويطارِدُ الجحود والشك والنفاق، ويقيم الأدلة الناصعة على وجود الله تعالى، وعلى وحدانيته، وعظيم قدرته، وبالغ حكمته، وواسعِ رحمته، وعلى بعثه رسله ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]. وعلى عدالة الجزاء في الآخرة: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31]. ويجلي له القرآن مصيرَ المؤمنين نجاةً وحياةً طيبةً في الدنيا، وفلاحاً في الآخرة، ومصيرَ المكذّبين: شقاء في الدنيا، وعذاباً في العقبى. الإيمان في القرآن يبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق، ويسامح ولا يتعصب، فهو يوجب الإيمانَ بكلِّ كتاب أنزل، وبكلِّ نبي أرسل، قال تعالى: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285].
3ـ والحريص على القيم الأخلاقية يجدُ في القرآن ضالته وطلبته، وإذا كان موضوع الأخلاق هو «الخير» فالقرآن قد دلَّ على «الخير» كما هدى إلى «الحق» وقد جعلَ فعلَ الخيرِ إحدى شعب ثلاثة لمهمة المجتمع المسلم، قال تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج 77]، ولكنّه لم يكتفِ من المسلم بفعل الخير، بل طلبَ منه أن يدعو إلى الخير، ويدلّ عليه، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران: 104].
4ـ وعاشق القيم الجمالية يجد في القرآن ما ينمّي حاسته الجمالية، ويغذّي شعورَه الفنّي، وذلك بما لفتَ إليه القرآن الأنظارَ من الاستمتاع بجمال الطبيعة في السماء، ﴿وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [الحجر: 16]. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]. وجمال الطبيعة في الأرض ابتداء من جمال النبات، قال تعالى: ﴿وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]. وقال تعالى: ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾[النمل: 60]. وجمال الحيوانات ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾[النحل: 6]. وجمال الإنسان ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾[التغابن: 3]. وجمال المخلوقات كلّها ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾[النمل: 88]، ووراء ذلك كلّه ما احتواه أسلوب القرآن ذاته من جمال بياني معجز في نظمه ومعناه، وفي شكله ومضمونه، وصفه المشركون أنفسهم فقالوا: إنّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدِقٌ، وإنّه يعلو ولا يعلى عليه.
القرآن الكريم كتاب الزمن كله
من خصائص القرآن: أنّه كتابُ الزّمن كله، وكتاب الإنسانية كلّها، وكتاب الدِّين كله، وكتاب الحقيقة كلها، ومعنى أنَّ القرآن كتابُ الزمن كله: أنّه كتابُ الخلود، ليس كتاب عصر معين، أو كتاب جيل أو أجيال، ثم ينتهي أمده، بل القرآن هو الكتاب الباقي إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، وهو الكتاب الصالح والمصلح لكلِّ زمان ومكان، مهما اختلفتِ العصورُ، وتنوّعتِ الحضارات، لا تبطل قيمته، بل لا يصلح إلا هو.
إنّ تعاليمَ القرآن موجهة للعالم بأسره، فهي للناس كافة في شتى أرجاء العالم، بغضّ النظر عن أصلهم، أنزلت إليهم لتدخل السرور والبهجة إلى قلوبهم، وتطهر نفوسهم، وتهذب أخلاقهم، وتوجّه مجتمعهم، وتستبدل سطوة القوي بالعدل والأخوة. وقد أكدّ الله عز وجل أن في القرآن حلولاً لجميع قضايا البشر ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]. فالقرآن له أعلى حظوة لدى المسلمين، وهو ليس مجرد كتاب صلوات، أو أدعية نبوية، أو غذاء للروح أو تسابيح روحانية فحسب، بل إنّه أيضاً القانون السياسي، وكنز العلوم، ومراة الأجيال، إنّه سلوى الحاضر، وأمل المستقبل.
القرآن الكريم نزل بأرقى اللغات وأجمعها
لقد اختار الله عزّ وجلّ اللغة العربية لينزل بها اخر كتبه، وهذا الاختيارُ من الحق عزّ وجلّ لهذه اللغة العظيمة إنما يعود إلى ما تمتاز به من مرونة، واتساع، وقدرة على الاشتقاق، والنحت، والتصريف، وغنًى في المفردات والصيّغ والأوزان، فكل دارس للغات العالم يُصرُّ على أنَّ اللغة العربية هي أرقى اللغات، وأجمعها للمعاني الكثيرة تحت الألفاظ القليلة، وأحسنها تهذيباً، وأكثرها إيضاحاً وبياناً للمطلوب، ولذلك أشاد القرآن الكريم بها في عِدّة آيات، منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الزخرف: 3]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قرآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2].
لقد أراد الله تعالى أن يكونَ القرآن كتاباً مخاطباً به كل الأمم في جميع العصور؛ لذلك أنزله بلغةٍ هي أفصحُ كلام بين لغات البشر، وهي اللغة العربية، لأسبابٍ يلوح لي منها: أنَّ تلك اللغة أوفر اللغات مادة، وأقلها حروفاً، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرّفاً في الدلالة على أغراض المتكلّم، وأوفرها ألفاظاً، وجعله جامعاً لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني، في أقل ما يسمح به نظم تلك اللغة، فكان قوام أساليبه جارياً على أسلوب الإيجاز، فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام بلغاء العرب.
المراجع:
علي محمد الصلابي، الإيمان بالقرآن والكتب السماوية، دار ابن كثير، بيروت، انظر الكتاب في الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد الصَّلابي:http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172.pdf
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.