شعار قسم مدونات

فلسفة "العود الأبدي" في مسلسل "DARK"

إذا عدت بالزمن للوراء، في حقبة كان فيها جدي شابا ووالدي لم يولد بعد، وصار أن قتلت جدي بالخطأ، في هذه الحالة هل أنا موجود؟ إذا نعم فكيف ووالدي لم يولد وإذا لا فمن قتل جدي؟ معضلة الجد هي من أكبر المفارقات التي تطرحها إمكانية السفر عبر الزمن بل وتشكل عائقا يحول دون الذهاب بعيدا في استيعاب هذه الإمكانية على الرغم من صحتها رياضيا.

 

إلا أن أول مسلسل ألماني لنيتفلكس يتحدى هذا العائق، فيتيح لنا السفر إلى أربع أزمنة مختلفة مع تجسيد باهر لكافة التجليات الممكنة لهته المفارقة المعقدة، بدقة جد عالية وفي قالب يمزج بين أفكار علمية وفلسفية طبعت حقب مختلفة من الفكر الألماني.

 

الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم عنيد مستمر

– ألبرت أينشتاين

تدور أحداث المسلسل في بلدة "ويندن"، تظهر وكأنها مكان معزول عن العالم. جل من يولد بويندن يعيش ويموت بها، فبالسفر من وإلى التواريخ الأربع: 1921، 1953، 1986 و2019 يمكنك معايشة تفاصيل حياة كل شخصية قبل ولادتها إلى ما بعد وفاتها، الشيء الذي يجعلك تستوعب مبدأ السببية في الكون؛ لا وجود لما يسمى بالصدفة، كل شيء يقع لسبب معين ويسبب في وقوع شيء آخر، فيصبح ذلك الاشتباك العلائقي بين الشخصيات مفهوما لتتمكن من ربط ما يحدث في 2019 بعلاقته بحدث وقع في 1921

 

قولة اينشتاين حول توحيد الأزمنة الثلاث واعتبار الماضي والحاضر والمستقبل أزمنة موجودة بنفس الكيفية وفي آن واحد هي القلب النابض والفكرة الجوهرية للمسلسل. الأزمنة ليست متوالية وإنما مترابطة بينها في تأثير متبادل؛ ليس الماضي وحده من يؤثر على المستقبل بل المستقبل بدوره يمكنه التأثير على الماضي، تمت محاكاة هذه الفكرة أكثر بمفهوم العود الأبدي الذي يهدم فهمنا الخطي للزمن أي دائما في تطور نحو الأمام ويعوضه بمفهوم الزمن كتجربة دائرية كل بداية هي نهاية في حد ذاتها، تظل تعاد لا نهائيا.

العود الأبدي في دارك

في كتابه "العلم المرح" يقترح نيتشه فكرة العود الأبدي ك "الوزن الأثقل" في تساؤل مفزع وغامض: "ماذا لو خرق جني ليلًا أو نهارًا أكثر لحظات وحدتك توحدًا، وقال لك: هذه الحياة التي تعيشها الآن والتي عشتها، عليك أن تعيشها ثانية ومرات لا متناهية؛ ولن يكون هناك أي شيء جديد فيها، فكل وجع وكل مسرة وكل فكرة وكل آهة وكل فعل مهما يكن صغيرًا في حياتك يجب أن يتكرر معك، بالترتيب والتعاقب نفسيهما، حتى هذا العنكبوت وضوء القمر هذا بين الأشجار، بل حتى هذه اللحظة التي أنا فيها. الساعة الأبدية للوجود تنقلب رأسًا على عقب مرة أخرى وأخرى، وأنت معها، بقعة غبار."

يجب الإشارة أن موضوع الوحدة له أهمية عظمى في كتابات نيتشه، حيث يعتبرها الطريق الأمثل ليتعرف الإنسان على نفسه ويلتقي بها في حميمية مطلقة. لذلك شكلت الشرط الأساسي حتى التمكن من التأمل العميق فيما قاله الجني ومحاولة استيعاب التجربة الفكرية للعود الأبدي، الأمر الذي لاحظناه في شخصية آدم وخاصة يوناس الصغير حيث تم تسليط الضوء عليه، في أغلب الأحيان، وحيدا في غرفته ومنغمس في تخميناته الخاصة والداخلية يحاول أن يعرف ماهيته وطبيعة ما يحصل من حوله.

 

العود الأبدي النيتشوي يتأسس على مبدأ جوهري قائم على دائرية الزمن رافضا بشكل جدري الفهم المتداول للزمن على أنه تتابع ماضي/حاضر مستقبل: “إن كل اتجاه على خط مستقيم إنما هو اتجاه مكذوب، فالحقيقة منحرفة، لأن الزمان نفسه خط مستدير، أوله واخره”، فمن وجهة نظر زرادشت وهو واقف على قمة الجبل، رؤية المجموع أمر ممكن: أبدية الماضي وأبدية المستقبل هما في الحقيقة أمر واحد موحد في لحظة واحدة تسمى: الآن، الآن هو الكل والكونية، ما وقع البارح وقع وما سيقع غدا سيقع دائما، اللحظة المستقبلية، تلك اللحظة الآنية الصغيرة التي ستأتي بعد، دائما تعود. فكرة العود الأبدي تقدس اللحظات الصغيرة جدا بإعطائها معنى أبدي. كل شيء يظهر إذا كبداية ونهاية كونية، كل لحظة هي دائرة مغلقة، كل شيء يظهر كأصل وهدف.

 

مفهوم "الإنسان الأعلى" عند نيتشه هو ذلك الإنسان الملم أتم الإلمام بفكرة العود الأبدي. في دارك، تمت محاكات الإنسان الأعلى بشخصية آدم. آدم وصل إلى مرحلة الوعي الكامل بما يجري من حوله، بقواعد اللعبة، وأصبحت له دراية شاملة بما وقع، يقع وسيقع فاستسلم لحقيقة دائرية الزمن واستحالة تغيير ما وقع في الماضي/المستقبل، كل ما وقع سيظل يقع دائما وأبدا وبنفس الكيفية، عليك فقط أن "تعشق ذلك القدر". كذلك العود الأبدي لا يقترح تعديل الماضي في المستقبل هذا أمر مستحيل، ولكن يعيد الاعتبار لكل الأحداث الماضية كأحداث إيجابية. من المنظور النتشوي فالسؤال الوجيه في هذه الحالة ليس ماذا سأفعل ولكن كيف سأفعله، حتى أتمكن من فعله لا نهائيا.

 

يمكن اعتبار هذه الفكرة تصالحا مع الزمن. "هكذا أردته، هكذا أريده، وهكذا سأريده". غير أن آدم في المسلسل على الرغم من استسلامه لصيرورة الأمور كما هي عليه، لا زال يلمس نوعا من الألم والمعاناة في ذلك المسار وللتخلص منها كانت أفكاره تنطوي حول تدمير الزمن بذاته. يقول:" الكون بأكمله هو لا شيء سوى عقدة جد ضحمة كل شيء مقيد بها بحيث لا هروب أبدا. لا يمكن الإفلات من هذه العقدة إلا من خلال تدميرها كليا. لا هروب من قدرنا المحتم.. نحن نعلن حربا على الزمن. نحن نخلق عالما بلا زمن.."

وهم تغيير المسار

حتى ولو كانت هناك الإمكانية للرجوع إلى الماضي بواسطة آلة الزمن، ثقب دودي أو المادة السوداء/حقل "هيجز"، ستنصدم بحقيقة أن الماضي لن يتغير مهما فعلت، لأن مهما كانت تصوراتك على أنك تغير حقا شيئا ما فأنت فقط تعمل على أن يتحقق ذلك الشيء بالضبط الذي تحاول منع وقوعه، هنا مثال" كلاوديا" التي علمت بتاريخ وفاة والدها في المستقبل، فحاولت منع حدوث ذلك غير أن كل خطتها أبت إلا أن تؤدي لوفاته على يدها. و"اولريتش" الذي حاول قتل هيجل الطفل لمنع فقدان ابنه "ميكيل" ولكن تبين في النهاية أنه كان سببا في وقوع ما حاول أن يمنع. لا وجود لتعدد الإمكانيات أو البدائل، هناك فقط حتمية وقوع الأحداث، فمهما ظن الشخص أنه بإمكانه تغيير شيء ما فهو فقط يتوهم.

 

 

يذكرنا مضمون هذه الفكرة بحوار" ايلويز" مع "ديسموند" في مسلسل " لوست" أمام جثة الرجل ضحية سقوط السقالات:" مهما عرفت سيرورة الأحداث فأنت لن تغير منها شيئا، كل ما سيحدث سيحدث، هذا الرجل إذا أنقدته اليوم من الموت بسبب السقالات، غدا سيسقط في الحمام ويتكسر عنقه، إذا منعت ذلك، ستدهسه سيارة في طريقه إلى العمل.. خطوته المقبلة هي الموت، هذا أمر حتمي. ومهما فعلت لمنع ذلك، الكون له طريقته الخاصة في إعادة تصحيح المسار نحو نفس الحتمية وهي الموت"

المشاعر وعلاقتها بالزمن

رغم إسرار الشخصيات على تغيير حدث ما في "الماضي" إلا أنها بمجرد الرجوع لذلك الماضي تتأثر بمشاعر وأحاسيس تشوش رغبتها الأساسية في تغيير الأشياء لأن إحساس اللحظة إحساس أبدي حتى ولو عدت فأنت ستعيد نفس "الخطأ" وبنفس الكيفية لأنه كان يظهر لك "صوابا" في تلك اللحظة بالذات. وسيظل يظهر كذلك إلى الأبد. هذا ما يدعم الطرح القائل بحتمية سيرورة الأحداث داخل التصميم العام للآلة الكونية. يقول آدم: "الإنسان مخلوق غريب. كل أفعاله مدفوعة بالرغبة. شخصيته مصقولة بالمعاناة. كلما حاول الإنسان قمع رغباته أو كبح معاناته، كلما أصبح مستحيلا أن يحرر نفسه من عبوديته الأبدية لأحاسيسه. طالما هناك عاصفة غاضبة بداخله، طالما لن يجد السلام لا في حياته ولا في موته. وهكذا سيفعل ما هو مجبر على فعله يوما بعد يوم، المعاناة هي وعاءه الدموي والرغبة هي بوصلته. هذا كل ما في وسع هذا الإنسان أن يفعل.. فقط عندما نطلق صراح أنفسنا من قبضة المشاعر، نصبح حقا أحرارا."

 

تبقى فكرة العود الأبدي تجربة ذهنية داخلية خالصة، تحرك تفكيرا عميقا بين الإنسان وذاته. دارك استطاع محاكاة الفكرة بنجاح، ربما ببعدها الفيزيائي المادي أكثر منه الباطني المجرد لكن يبقى المبدأ حاضر وبقوة، يتم تخمينه انطلاقا من ألغاز عملاقة، تضع المشاهد أمام متاهات متعانقة تمت صياغتها بحبكة غير عادية، بإخراج أقل ما يقال عنه الجمال والرصانة، كل ذلك في قالب من الغموض والتشويق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.