شعار قسم مدونات

التنوير يسبق التغيير

blogs مجتمع
blogs مجتمع

إن عملية التغيير هي عملية معقدة وصعبة وتحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والمال والصبر قبل ذلك فإن التغيير يعتمد على عنصرين وهما الإيمان بالقضية والمثابرة عليها فإنه يبدأ الفرد بنفسه ثم بالعائلة ثم القبيلة ثم المجتمع أي الدولة فإنها عملية تدرجية هرمية تبدأ بالقاع لتصل إلى قمة الهرم وليس العكس ولكن كيف يكون ذلك؟ إن الديمقراطية التي تعيشها بلادنا والتي تعريفها العام هو الحكم للشعب هي عملية يصل فيها فئة من الناس إلى الحكم والسلطة لذلك فان عملية التغيير يجب أن تبدأ بالناس والمجتمع الذي ينتج الطبقة السياسية الحاكمة ولكن للتغيير آليات وأساليب منها المادية ومنها الروحية.

 

مما لا شك فيه أن حالة الكون غير مستقرة أي أنه في حالة متحركة ومتغيرة وتمدد دائم وهذا إعجاز قرآني "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" فلقد أخطأ أينشتاين عندما قال أن الكون في حالة من الجماد والسكون حتى جاء هابل صاحب التلسكوب الشهير الذي أكد أن الكون في حالة توسع وتمدد دائم مما يؤكد الآية القرانية فإن النظام الشمسي درب التبابة وجميع كواكبه ومنها كوكب الأرض في حالة من الحركة الدائمة ويدور حول نفسه وحول الشمس وهذه الحركة هي أساس بقاء الحياة على الأرض فالحركة هي دينامية التغيير والمحرك الأساسي لآلية التغيير على مستوى العلاقات البشرية في تكوينات الاجتماعية الكلية مثل الأنظمة السياسية والجزئية منها الزوجية والصداقة فالروتين والتقليد يؤدي إلى فتور في العلاقة يكاد يصل إلى موتها حتى في العلاقة الجنسية فالتغيير يؤدي إلى لهفة الزوجين وإعادة تنشيط الحالة العاطفية والحب المتبادل.

 

كذلك الحال على مستوى مسار الأمم في النهوض فهي تحتاج إلى التجديد والتحديث وتحريك على مستوى الفكر والعقل والجسد والمؤسساتي فالتغيير يبدأ بالفرد كما قال أفلاطون إن الدولة تبدأ بالفرد ثم العائلة ثم القبيلة ثم المدينة أي الدولة آنذاك كذلك حال فإن التغيير يبدأ بالفرد والذي هو جزء من المجتمع وتنتقل العملية إلى العائلة وصولاً إلى المدينة فهذه الآلية تتحول إلى تغيير الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحتاج كل فترة إلى تطوير وتغييرها في الكثير من الأحوال فهذه العملية هي جزء من الحداثة الحضارية ولكن ما هي الحداثة؟

عندما وصل الإسلام إلى أوروبا كنظام تنويري بدأت أوروبا بأولى حقباتها التنويرية بدأت بثورة مارتن لوثر وهي حركة تصحيحة سميت بالبروتستانت

أثناء قيادة دراجتي النارية في بيروت بجانب جسر الرينغ رأيت دعايةٍ للبيبسي حيث كانت الإضاءة وطريقة عرض المنتج ملفتة بشكل رهيب مما أجبرتني للوقوف وشراء عبوة منها ولكن ماذا يجعل من شركة البيبسي أن تقوم بالتسويق لمنتج هو من أكثر المنتجات مبيعا في العالم دون الحاجة إلى التسويق له؟ بكل بساطة أنها الحداثة في التسويق والتغيير من أجل الحفاظ على قيمة المنتج فإن الشركة مدركة أن الزبون يحتاج إلى صدمة عقلية من أجل تحفيزه على شراء المنتج بشكل دائم رغم أن محتوى العبوة لم يتغير إنما الشكل فقط ولكن الشركة قامت بالتعديل على المحتوى وأنتجت أنواع أخرى مثل بيبسي ماكس كذلك الحال على الحركة الإنسانية والدول فإنها تحتاج إلى التحديث والتجديد على مستوى المادي والروحي فإن أحد أسباب سقوط الدولة العثمانية هو الاصطدام بالحداثة الأوروبية وبات ذلك جلياً خلال الغزوات الأوروبية للعالم الإسلامي الواقع في الأراضي العثمانية خصوصاً في الجزائر ومصر وهذا التراجع الحضاري وصل إلى كل العالم العربي والإسلامي ولا يزال يعيش فيه حتى يومنا هذا ولكن كيف وصلت بلادنا وحالتنا إلى هذا المستوى من التراجع الثقافي والحضاري ولم يبقى إلا أثره القديم في الكتب والعمارات الهندسية؟

 

بكل بساطة فإن التغيير لا بد له أن يسبقه التنوير إن مرحلة التنوير هي أساس بناء الإنسان على مستوى الفرد وهذا الفرد يبدأ بتنوير العائلة والأصدقاء ومحيطه ثم يتسع التنوير إلى المجتمع ثم يتسع أكثر إلى أن يصل إلى المستوى السياسي أي الدولة فلقد كانت أوروبا في العصور الوسطى غارقة في الجهل والتخلف والرجعية هذا التخلف لم يكن على مستوى العلوم المادية البحتة والرياضيات فقط إنما أيضاً في العلوم الاجتماعية والأخلاقيات والنظافة الشخصية فلقد أرسل هارون الرشيد إلى شارلمان ملك الفرنجة ساعة رملية وعندما استلمها هو وحاشيته فلقد اعتقدوا أنها ملبوسة ومسحورة ولكن في الحقيقة هذه الحادثة تعكس الفجوة بين الشرق والغرب الفجوة بين الحضارتين المتصارعتين ولكن اليوم وعبر مرور زمن طويل وسيرورة من النضال الفكري والبحثي وثورات علمية استطاعت هذه القارة العجوز من الخروج من عتمة الجهل والتصدر في التقدم التقني والتكنولوجي والأنظمة الإنسانية ومجتمع يسوده العدل ولكن طبعاً لا يزال يسوده الكثير من الشوائب فعندما زار الإمام محمد عبده مفتي مصر فرنسا قال مقولته الشهيرة "رأيت الإسلام ولم أرى المسلمين" وعندما عاد إلى القاهرة قال "رأيت المسلمين ولم أرى الإسلام".

 

عندما ظهر الإسلام في الجزيرة العربية كانت الجزيرة يعمها الجاهلية فهي منطقة نائية لا حضارة فيها ولا ثقافة إنما قبائل متناحرة تقتل بعضها البعض فجاء الإسلام كخطوة تنويرية قبل إعلان الدولة التنوير قام على إنهاء أفكار القبلية والطبقية والمجتمع الذكوري وأرسى فكرة الأمة الجمعاء فالأمة ترمز إلى الوحدة والقوة ولا تنظر إلى العرق ولا إلى القبيلة إنما إلى العقيدة الراسخة الصلبة وأول أية في الإسلام نزلت هي "اقرأ" فهي آية تنويرية علمية هذا التنوير الفكري والحضاري استطاع أن يسقط حضارات وامبراطوريات ضخمة وصل الإسلام بالفكر التنويري إلى حدود الصين شرقاً وإلى فرنسا غربا في فترة بسيطة وذلك بقوة العلم والتنوير والإيمان من خلال التنوير الذي هو محرك الأمة آنذاك بدأ الطب بالتطور والفيزياء فلقد استعان التنوير الإسلامي بالتنوير الإغريقي والفارسي والهندي واستفاد من تلك العلوم.

 

وعندما وصل الإسلام إلى أوروبا كنظام تنويري بدأت أوروبا بأولى حقباتها التنويرية بدأت بثورة مارتن لوثر وهي حركة تصحيحة سميت بالبروتستانت كان العلم آنذاك يتصادم مع الكنيسة المسيطرة على المشهد الأوروبي كله فلقد أُعدم كوبرنيكوس وغاليلو بسبب طرح أفكار تتعارض مع الإنجيل منها أن الشمس هي مركز الكون فإن اللوثرية هي البداية التي لم تتوقف فبدأت بفصل الدين عن الدولة ثم جاءت الكالفينية حتى بدأ عصر التنوير في أوروبا بشكل كبير التي فجرت الثورة الصناعية في إنكلترا وبدأ الفلاسفة الأوروبيين مثل مونتسيكيو وتوماس هوبز وديكارت وكانت وجان جاك روسو ثورتهم الفكرية في العلوم الإنسانية التي كانت نتيجتها الانفجار الثوري الذي بدأ مسيرته في 1776 أي الثورة الاميركية ثم في 1789 أي الثورة الفرنسية.

 

هاتين التجربيتن التنويريتين الشرقية والغربية تقولان لنا من خلال البحث العلمي الاستقرائي والتأريخي أن تطور فكر الانساني هو أساس التطور البشري فإن عملية بناء المجتمعات تحتاج إلى تنوير فكري وثقافي وهذا ما نفتقده في بلادنا في أوروبا ترى المراكز الأبحاث والأكاديميات الثقافية والاستشراقية تملىء المدن والشوارع وهذا أساس تطور أوروبا أما في بلادنا العربية فهي تفتقد إلى هذه المراكز والتي هي أساس النهضة وخير دليل على أهمية تلك المدارس الفكرية هي التي قامت في عصر الوزير نظام الملك لطرد الغزو الصليبي التي أنتجت عماد الدين زنكي مروراً بنور الدين زنكي وصولاً إلى صلاح الدين فإن صلاح الدين هو نتاج مجتمع متنور أدى إلى دحر الصلبيبين ليس عسكريا فقط إنما حضاريا وخير دليل على ذلك فإن مصر كانت في عهد الدولة الفاطيمية إسماعيلية ولكن في فترة تنويرية بسيطة عادت إلى أن تكون سنية.

 

وفي المقابل فإن الانتشار المغولي السريع في العالم واندثاره بشكل سريع أيضاً واختفائهم دون أي أثر حضاري هو دليل على أن تلك القوة لم يسبقها أي حقبة تنويرية إنما قامت فقط على القوة العسكرية والقتل والوحشية وذلك لأن التنوير يترسخ في المجتمعات والعقول والعمارات الهندسية التي تدل على الحقبة التنويرية خلاصة القول فإن بناء الإنسان يؤدي إلى بناء المصانع والسلاح والمعامل فبناء الأوطان يبدأ ببناء الإنسان التنويري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.