شعار قسم مدونات

المعجزات تُصنع عندما يشعر الإنسان بقيمته

blogs تأمل

يتعجّب المرء في تدبّره لمسيرة الإنجاز التي انطلقت من الجزيرة العربية منذ بداية دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وفي نيّفٍ وثلاثين سنة فإذا الأرض غير الأرض؛ دولتان عظميان "فارس والروم" تتهاويان على يد المولود الجديد، وأضحت صحراء العرب مشكاة النور التي تشرق على الأرض، إنه حدثٌ لم يعرف التاريخ مثله. هناك عوامل تعاضدت في نسج ذاك التغيير الكوني، ولكن خيطاً رابطاً في تلك الحقبة المباركة لافتٌ للانتباه، وله علاقة بصلب القاعدة التي يستند عليها طموح الإنسان، ألا وهو الشعور المُتيقّن والمبثوث في نفوس ذاك الجيل، بأن كلّ واحد له قيمته ومكانته المحفوظة، وهذا الشعور تنامى مع مواقف عزّزته وأيّدته.

مجموعة من المواقف منتقاةٌ ومنظومة في عِقد الشعور بالكرامة الإنسانية، وقد حُفرت في صدور الصحابة، قبل أن تُكتب على جبين الدهر، فَجعلت من الإنسان طاقة لا حدود لعطائها، وأضحى ذاك الجيل مظهر معجزة القرآن. عندما يُباهي الرسول بحبّه لخديجة، ويفخر بفضلها، وتشعر خديجة بسمو مكانتها كما ورد في الحديث الذي أورده البخاري في صحيحه "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتَتْ، معها إناء فيه إدام، أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربِّها ومنِّي، وبشِّرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب". فإذا ذكرها الله بسلامه، فلك أن تتخيّل عظيم الأثر الذي خلّفه ظلال ذاك السلام الجليل، ولا عجب بأنّ خديجة قدمت مالها وجهدها وقوداً للدعوة الجديدة.

لعلّ من أهم أسباب الإبداع عند الغرب هو ذاك الشعور بالقيمة والكرامة، وقد اهتز هذا الشعور عند بعضهم بسبب إدارة بعض الحكومات لأزمة كورونا

أما ذاك الكفيف عبد الله بن أم مكتوم كيف كان شعوره بمكانته وقيمته في بناء الدولة الجديدة، وقد عاتب الله نبيه فيه لأن الرسول أعرض عنه وهو ذاهب لدعوة سادة قريش، وينزل الله قرآناً يرسم الحدث، ويُسطّر العبر "عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)" فبعد ذلك تزول الغرابة عندما تعلم بأن هذا الكفيف صاحب العذر؛ يأبى إلا أن يحمل راية المسلمين في معركة القادسية، فيخالط دمه اللواء الذي عرف قيمته ومكانته تحته.

ذمّي يهودي قاطنٌ في المدينة يتآمر عليه رهط من المسلمين ويتهمونه زورا بالسرقة، ويأبى الله إلا أن يُظهر الحق، وتعلو كرامة الإنسان، وليس هذا حسب، بل يُنزل الله قرآناً في إنصاف اليهودي بالعدالة، وتقريع الخائنين كما وصفهم الله في سورة النساء. هذا المواطن اليهودي الذي تأكدّ أنه في هذه الدولة لا يُظلم، وأن مكانته لا تُمس، فعندها لا مراء في الانتماء. ما سبق غيضٌ من فيض المواقف، والتي شعر فيها أفراد ذاك الجيل الفريد بقيمتهم، فتفجّرت طاقاتهم، فلا غرو بغزير تضحياتهم. وهذا النهج سار عليه الخلفاء الراشدون.

لعلّ أقسى ما يُعانيه الكثيرون من أمة العرب والإسلام في زمننا هذا؛ هو الشعور البائس بقيمة غير محفوظة، وكرامة مهدورة، وحظّ من العدالة ضئيل، وهذا لعمري إذا وَقر في نفس الإنسان فإنه موت للإبداع، وقبرٌ لروح المبادرة، وقتْلٌ لروح التضحية من أجل الأمة والرسالة والوطن. فماذا نريد من إنسان لا يرى نفسه في وطنه إلا رقماً بلا كيان، وهذا إن لم تدسه وتنهشه مخالب الطغيان. فإذا فرّت الطاقات خارج الأوطان فلا عجب. ويبدو أن أنظمة البطش والقمع تسعى بأن يتولد شعور المهانة في نفس المواطن، حتى يميتوا فيه الطاقة الإيجابية التي تبتغي التغيير، لأن أركان عروشهم تهتز إذا وجد الإنسان مكانه التي يستحق، فإذا وجدها فإن أولى خطواته ستكون نحو هدم صرحِ جلّاديه.

إن فترة التأمل التي أتاحها لنا حجر كورونا تُمثّل كوّة انطلاق للإنسان العربي، أو المسلم، أو المظلوم؛ حتى يراجع دوره ورسالته التي يحملها، ويتأمل في حال الطغاة العاجزين أما فيروس لا تراه الأعين، ولكنها ترى عظيم أثره وبطشه. لعلّ من أهم أسباب الإبداع عند الغرب هو ذاك الشعور بالقيمة والكرامة، وقد اهتز هذا الشعور عند بعضهم بسبب إدارة بعض الحكومات لأزمة كورونا، أما نحن فعندنا عشرات الأسباب التي نرى في مرآتها كم هي تائهة كرامتنا، وكم هي منقوصة قيمتنا، فهل حان الوقت أن يثور الإنسان حتى يبقى إنسانا كاملا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.