شعار قسم مدونات

قد يكون في الجحيم نافذة على الجنة!

blogs ثورة

هناك أنهار من الأشلاء والدماء والدموع والألم قدمتها الأمة الإسلامية في تاريخها القديم والمعاصر، بعضها أخبرتنا به بطون الكتب، وبعضها تخبرنا به الآن شاشات الفضائيات، وعلى الرغم من كل هذه التضحيات ما زالت دول عديدة في عالمنا العربي والإسلامي تحتل مراكز الصدارة بين الشعوب في مجالات التخلف والبطالة والأمية والفقر والاستبداد السياسي. فلماذا تنجح أمم في تحويل تضحياتها إلى نتائج ملموسة وأمم أخرى تذهب تضحياتها أدراج الرياح؟ يرجع ذلك لجملة من الأسباب من أهمها:

 

أولًا: إدراك طبيعة الصراع

طريق تقدم المجتمعات يمر عبر جداول الألم والدموع، فلا غرابة أن تتعرض أمة من الأمم لتحديات قاسية، فإنجلترا مثلًا عاشت أيامًا سوداء تحت قصف وحصار النازي الألماني في الحرب العالمية الثانية، لكنها نجحت في تحويل المحنة إلى تَحَدٍّ خلَّاق رفع من شأنها، وانتقلت عبره نحو رحاب السيادة والكرامة بأقل الخسائر الممكنة، تحت قيادة الزعيم تشرشل، فالتغلُّب على الصعاب يتطلَّب إدراكًا من النخبة الحاكمة لطبيعة الصراع المفروض عليها، وكيفية التعامل معه، وفي هذا الإطار من غير المقبول أن نسمع القادة في أمتنا يقولون: لم نكن نتخيل أن ردة فعل العدو ستكون بهذه القوة والقسوة!

 

ثانيًا: استنطاق الوقائع

عندما يتلوى الطفل الرضيع ويعلو صوتية بالبكاء قليلون هؤلاء الذين يفهمون ماذا يريد بالضبط، ولكن يكفي أن يكون في البيت شخص يعرف ماذا يريد، وهكذا عندما تعتري الأمم التحديات والآلام من المعتاد أن تتسم ردات فعل جموع الأمة بالعاطفية والعفوية والارتجال، ولكن الأهم أن نمتلك قدرًا من الاستراتيجيين الذين يغوصون خلف الظواهر الاجتماعية مهما بلغ تعقيداتها وصعوبتها؛ فيجعلون لها نسقًا ولغةً وفهمًا؛ تُمكن المجتمع من معرفة المسار الذي يجيب السير فيه ، فكما أكد الفيلسوف هيجل "أن بومة منيرفا لا تحلق إلا عند الغسق"، بمعنى أن الإبداع الفلسفي والفكري عادة لا يتجلى ولا تبرز الحاجة إليه إلا في ساعات غروب قوة الأمم والشعوب، فينقدح ذهن المبدعين نحو إبداع الحلول وتكوين الرؤية القادرة على انتشال الشعوب من مرحلة التيه والتخبط نحو مشارف المستقبل، والأخذ بزمام المبادرة حتى ولو كان الواقع صفريا، كما عبر الإمام الغزالي عن ذلك بقوله: "قد يكون في الجحيم نافذة على الجنة".

 

ثالثا: التفاعل مع الأحداث لا الانفعال بها

تزداد فرصتنا في التغلب على التحديات، عندما يتوفر لنا قادة يعملون باستراتيجية التفاعل لا الانفعال بالأحداث، ويكون همهم أن يخلقوا للوقائع والأحداث لغةً و فهمًا يمكن من خلالها أن نبصر طريق الخروج منها، وتعظيم الفائدة من التضحيات والدموع والآلام؛ إذ الانفعال بالأحداث عادة لا يوفر حلًّا ناجعًا لها ويكون مؤقتًا، ويفتر مع مرور الزمن، ولا يعبر عن خطة عمل ، وإنما كثير منه يقع في خانة الاحتجاج على الأحداث وليس مقاومتها، على عكس التفاعل الإيجابي الذي يحول الانفعال بالأحداث إلى خطط عمل وبرامج يكون هدفها تحديد عقدة الصراع والقضاء عليها.

 

رابعًا: قطع طريق العودة أمام المصائب

مرَّت القارة الأوروبية بحروب دينية ضروس، امتدت طولًا قرابة مائة العام من الاقتتال والتدمير والحرق والقتل على الهوية، وامتدت عرضًا حتى انتظمت مجمل الدول الأوروبية، وامتدت عمقًا حتى إنها ساهمت في تشكيل الخريطة السياسية للدول الأوروبية في التاريخ المعاصر، ورغم وطأة هذه الحروب على الأوروبيين، إلا أن المجتمع الأوروبي المثقل بالجراحات أخرج تيارًا من الفلاسفة والمفكرين والمبدعين يمقت منطق الفتنة والانقسام الذي أنتج هذه الحروب، وأبحر هذا التيار وسط موجات العقل الأوروبي باحثًا ومدققًا عن الأفكار الضارَّة التي ساعدت في إشعال هذه الحرائق الطائفية، ومن ثَمَّ أنتج أمصالًا فكرية كفيلة بالقضاء عليها وبشكل لا يسمح بعودة كابوس العنف الطائفي مرة أخرى إلى البيت الأوروبي، فهؤلاء الفلاسفة والمبدعون أبدعوا سياقات فلسفية وسياسية واجتماعية جديدة، يمكنها أن تسمح بخلق مجال للاختلاف يسمح بالتعايش وقبول الآخر المغاير في الاعتقاد والشريك في البقعة الجغرافية (الوطن)، مما ساعد في تنمية حاسة الانتماء والولاء في نفوس الشعوب الأوروبية، في تلك الحالة يمكننا القول بأن الضحايا الذين سقطوا في المعارك والحروب الطائفية الأوروبية لم تذهب دماؤهم، ودموعهم أدراج الرياح وإنما من خلالها أبصر هؤلاء الفلاسفة والمبدعين والقادة طريق الخلاص.

 

ويتضح لنا في ختام المقال أن الأمة العربية قدمت تضحيات كبرى في مواجهة مشاكلها، ولكن حصاد لهذه تضحيات التي قدمتها لا يتناسب مع النتائج التي حصدنها على كافة المستويات الحضارية والثقافية والاجتماعية؛ لذلك أرى أن منطقتنا العربية والإسلامية لكي تثمن الدماء والأشلاء التي ضحت بها من أجلها كرامتها واستقلالها، لابد لها من فهم طبيعة الصراع القائم في العالم، والتعلم من الأخطاء وعدم السماح بتكرارها، وبذل مزيد من العمل والعرق لإنتاج نخبة واعية بالتحديات، وطرق تجاوزها دون الوقوع في فخاخ نفس التحديات، وتكرار نفس المآسي التي لم تغادر ساحات منطقتنا منذ قرنين من الزمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.