على أنقاض الكوارث تبنى الأمم، إلا في مصر فعلى آلام المواطنين وبأموالهم، تبنى القصور والفيلات والمشاريع التي لا تخدم إلا طبقة المنتفعين القريبين من رجال السلطة، ورجال الأعمال، ولا ينظر للمواطنين سوى أنهم مصدر دخل للدولة، ودافعي ضرائب ورسوم، ودون ذلك لا يهم حتى ولو سقط الكثيرون منهم في براثن الفقر.
في الوقت الذي تسعى فيه دول العالم إلى دعم مواطنيها، وتمنحهم الحماية الاقتصادية، تحت مظلة قانونية، لمواجهة تداعيا جائحة كورونا وحمايتهم من الفقر، تسعى الحكومة المصرية، إلى استغلال المواطنين، عبر فرض مزيد من الضرائب والرسوم، التي تكبلهم وتزيد العبء على كاهل الأسر، التي تعاني من ارتفاع مضاعف في أسعار السلع والخدمات، منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، العالم يتحد مع مواطنيه، ويقدم لهم العون لدفع إيجارات السكن، وتسديد أقساط القروض وكذلك ضمانات للأجور، ويسن القوانين التشريعية لخدمتهم، ومصر تطلب العون من شعبها. في أمريكا التي فقدت 20.5 مليون وظيفة خلال شهر أبريل الماضي، وسجلت أرقاما قياسية في معدلات البطالة بمستويات قياسية لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية، تقف الدولة داعمة للعاطلين، لتقدم للأسر شيكات نقدية ومعونات بطالة وصلت إلى 3000 دولار، لمساعدتهم في مواجهة الأزمة.
وفي المملكة المتحدة التي تنتهج سياسة تقشفية، منذ وصول بوريس جونسون لرئاسة الوزراء، أعلنت الحكومة عن برنامج لاحتواء كامل المشردين، ووضعهم في منازل مناسبة، وكذلك فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وكثير من الدول الأسيوية، والعربية التي سنت قوانين ودشنت برامج لمساعدة مواطنيها وفتحت خزائنها لمساعدتهم، وأطلقت أسطول طائرتها لتعود بالعالقين منهم في مختلف الدول. ففي الفلبين الدولة التي يعاني اقتصادها، استقبلت مواطنيها من مختلف دول العالم، ولم تفرض عليهم، نفقات حجر صحي، أو أسعار مضاعفة في تذاكر الطيران، كما لم تماطل في عقد الاتفاقات مع الدول التي يتواجد فيها رعاياه، لتحقيق مكاسب اقتصادية، فكل دولة أعلنت فتح حدودها لمغادرة الوافدين، كان للفلبين السبق في استقبال مواطنيها، دون شرط أو قيد، وكذلك الهند وكثير من الدول العربية التي لم تمنعها الأزمة من استقبال رعاياها.
لست بصدد المقارنة بين اقتصادات دول كبرى، مع اقتصاد مصر المتهالك، التي أنهكته سياسيات متخبطة، ولكني أنوه بإجراءات ضرورية اتخذتها حكومات تعيش أزمة طاحنة، مع مواطنيها. الفرق بين مصر وغيرها من البلدان، أن المواطن في تلك الدول يحظى بالرعاية والاهتمام، وأصبح أهم أولويات حكوماته، حتى ولو لم تكن صاحبة اقتصاد قوي، وتعاني من ارتفاع معدلات البطالة ونقص الموارد.
في مصر، التي يطالب مجلس نوابها بضرورة زيادة معاشات الشرطة، وترتفع فيها مرتبات الجيش والقضاة تلقائيا، أقرت الحكومة بموافقة من انتخبهم الشعب لحماية مصالحه – على افتراض أنهم منتخبون- فرض رسم تنمية الموارد المالية للدولة، وأقرت رسوما جديدة على أسعار البنزين والسولار، قدرت بأكثر مما خفضته خلال انخفاض أسعار النفط العالمية، الحكومة التي غابت أعينها عن رقابة الأسعار وتركت الشعب فريسة لكثير من التجار، تسطر فصلا جديدا من الفشل في التعامل مع الأزمات، حيث أظهرت أن المواطن ليس من الضروري حمايته، فقراراتها دائما ما يكون لها نتائج سلبية على الطبقات الفقيرة، التي تعاني شظف العيش، وبالكاد تستطيع توفير قوت يومها، في ظل ما تعيشه من غلاء وبطالة.
غفلت قرارات الحكومة عمال التراحيل، والعمالة الموسمية والباعة الجائلين، لم يكونوا يوما في حسبان الدولة، ولم يجدوا من يحنو عليهم، وبالرغم من الإعلان عن منحة مستحقة لهم تقدر بـ 500 جنيها (دولار يوميا)، ولم تتسائل الحكومة كيف تعيش أسرة مكونة من 4 ألفراد بدولار واحد يوميا، ناهيك عن أن كثير ممن ليس لهم مصدر دخل لم تشملهم تلك المنحة التي لا تتجاوز 31 دولار شهريا، (مطالب صاحبها بتوفير الغذاء والكساء والمسكن وما خفي كان أعظم)، ولعلم النظام بأن بتلك المنحة لن تستقيم الأمور، خرج الرئيس في أحد لقائته يعدد المزايا التي منحت للفقراء، مؤكدا أنهم يتحصلون على دعم خبز وزيت، وتناول أمورا لم نرى مسؤولا في أي دولة يقول انا أمنح المواطن بدل خبز، أو أمنحه "سكر وشاي".
ومع تلك الإجراءات الضريبية الجديدة التي تهدف إلى تعزيز موارد الدولة، انخفض الاحتياطي الأجنبي، أكثر من 8.4 مليار دولار منذ بداية العام، حيث سجل في نهاية الشهر الماضي، 37.037 مليار دولار، مقارنة بـ 54.456 مليار دولار في يناير، وذلك بالرغم من أن الدولة لم تنفق منهم دولارا واحدا، لدعم المواطن في مواجهة تبعات الجائحة. الاحتياطي النقدي لم يصرف منه سوى 1.6 مليار دولار تسديد التزامات دولية، و6.8 مليار دولار، لم يشعر بهم المواطن، ولم تشملهم خطة الدولة في تعزيز وحماية طبقات من الشعب، عصفت بهم الأزمة الحالية.
لم يختلف المواطن في الداخل كثيرا عن نظره في الخارج، بل امتد فشل الدولة يلاحق المصريين في الخارج، فبعد مماطلات حول آلية استقبال العالقين من أبنائها في الدول العربية، استقبلت عدد من المصريين في الكويت، بعد أن تحدث العالم عن أن مصر رفضت استقبال مواطنيها، ولم يأتي ذلك إلا بعد أن تطوعت الكويت وتحملت تكلفة الطيران للآلاف منهم، وأسقط عنهم مخالفات الإقامة ووفرت لهم سكنا مؤقتا لحين سفرهم. ولم تكتفي مصر بذلك بل ألزمت الحكومة العالقين بقيمة حجر صحي يفوق قدراتهم، وخرج المسؤولون بتصريحات رنانة، يؤكدون خلالها الحرص على إعادة العالقين وتوفير خدمات العلاج للمرضى مجانا، وتهربوا من الإجابة حول المقابل المادي الذي فرض على القادمين نظير الحجر الطبي.
وها هو الإغلاق على وشك الانتهاء، وتسعى دول العالم لرفع الحجر تدريجيا، ومصر مازالت تصرح لن نترك أبنائنا.. سنقدم لهم الدعم.. سنحافظ كرامتهم.. ولم يتحرك مسؤول لبحث معاناة الآلاف ممن ضاقت بهم السبل، ونفدت أموال كثير منهم، وأصبحوا في انتظار الصدقات من أهل الخير في بلاد الغربة، أعلنت الحكومة عن رصد 100 مليار جنيه، لمواجهة تداعيات الجائحة، وأبسط تلك التداعيات، توفير أدوات تساعد على الوقاية من الإصابات لمن هم في الداخل. محمد معيط، وزير المالية، صرح قبل أيام أن الدولة أنفقت 40 مليار جنيه من أصل 100 مليار خصصها الرئيس عبد الفتاح السيسي، لمواجهة أزمة كورونا في مصر، ولم يشير إلى أوجه الصرف التي التهمت نحو نصف المخصصات. ولكنه اعترف أن وزارة الصحة لم تحظى إلا 5.1 مليار جنيه، فيما وفرت الدولة احتياجات غذائية بقيمة 5 مليار آخرى.
في إحدى المحافظات الساحلية، منع أحد البنوك أصحاب المعاشات والعملاء، من الدخول إلا بشرط ارتداء كمامة، فانتشر المواطنون بحثا عن كمامات في الصيدليات المجاورة للبنك، إلا أن سعيهم قد خاب، باستثناء اثنين، وقرروا جميعا التناوب على كمامة واحدة، فأصبح من ينهي معاملته داخل البنك، يسلم الكمامة وهو خارج لمن يليه، وهكذا، تناوب أكثر من 30 رجلا وامرأة، أغلبهم من أصحاب الأمراض المزمنة، على كمامة واحدة أو كمامتين على الأكثر، فهل لنا أن نتساءل أين الـ 100 مليار جنيه المخصصة لمواجهة كرورنا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.