شعار قسم مدونات

عندما يُختزل الشرف في الجسد

blogs تأمل

خلق الله الإنسان في هذه الأرض لغاية واضحة محددة، ألا وهي العبادة "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، ومن العبادة إعمار الأرض، ولأن الذكر والأنثى هما الإنسان، كان كل منهما مسؤول في هذه الحياة بما يتناسب وطبيعته وخِلقته، لهما حقوق وعليهما واجبات، والتفضيل بينهما إنما يكون بناءا على ما يقدّمه كل منهما في الدنيا فيُجزى به في الدنيا والآخرة، ثوابا كان أم عقابا. إلا أن بعض عباد الله قرروا بطريقة ما أن يجعلوا الرجل أفضل من المرأة، سواءا صرّحوا بذلك أم لا وسواء شعروا بذلك أم لا أيضا، وللأسف أن بعض هؤلاء العباد هن من النساء، اللواتي يرين بأفضلية الرجل في كثير من الجوانب على المرأة.

ولنأخذ مثال بعض الأمهات اللاتي تعطين الضوء الأخضر للذَكر يفعل ما يشاء دون رقابة على نقيض الأنثى، إذ أنّ كونها أنثى كفيل بأن يجعلها محط الأنظار ومحطّ الاتهام ممن حولها حتى وإن لم تفعل شيئ خاطئ، ما يجعل الأم -وأحيانا الأب- ينفخون ابنهم الذكر بمفهوم السيطرة من حيث لا يشعرون، ويغذّون شعوره بالذكورة المزيفة التي ترى بأن الرجل الحقيقي هو الذي لا يعيبه شيء، بل هو الذي يرفع صوته، وهو القاسي الجاف الذي لا يبكي ولا يخاف ولا يسمع كلام المرأة ليثبت أنه (رجل). هذا نفسه هو مَن سلّموه مهمة حفظ شرفه المتمثّل في هذه الأنثى التي لا تعرف من الشرف الذي ردّدوه على مسامعها منذ صغرها سوى ذاك المعنى المحصور في جسدها، وبالأخص بين قدميها.

المرأة مكلّفة بالعفة وستُحاسب إن هي أذنبت تماما كالرجل، ولن يُعفى أحد من الحساب بين يدي الخالق بناءا على جنسه، هي مكلَّفة بحفظ نفسها وصون عفّتها، وهذه من الأمور التي لا ينبغي التهاون فيها

وقد يحدث أن يكون هذا الذي يعتقد بأنه حافظ لشرفه، قد انتَهك -شرف- غيره، لكن ازدواجية المعايير المستفزّة في المجتمع والتربية ستجعل من تصرّفه أمرا عاديا بينما تصرّف المرأة جريمة لا تُغتفر. مما يجعله يتمادى في خطئه لا بل وفي تكرار خطئه. ومن المضحك المبكي أن يكون مثل هذا الشاب يلعب على أكثر من فتاة في نفس الوقت، لكن ما إن يعلم أنّ أخته أو قريبته قد فعلت ولو جزء بسيط مما فعل، ينتفض نفضة ثور هائج مختبئ في أحشائه، فتراه يسبّ ويلعن ويضرب ويهدّد، وفي حالات ليست بالقليلة قد تصل للقتل تحت مسمّى (قضية شرف)، وأنت تحتار بين القاتل والضحية أيّهما عديم الشرف؟ وتلتبس عليك الأمور وأنت تبحث عن شرف من يدافعون؟ وعن أي عار يغسلون؟ وعن الهدف الكامن وراء القتل؟

وبعد تلك الجريمة يخرج (القاتل) ليبرّر بصمت لمجتمع هش تماما كرجولته بأنه قد غسل عاره. قَتَل ليغسل شرفه، وهو نفسه لا يدري أن شرفه ملوّث منذ زمن بعيد، منذ أن زرعوا فيه بذور الانتفاخ الذكوري والأفضلية الذكورية الجاهلية الظالمة والتي عادت بحلل جديدة تحت مسمى (قضايا الشرف)، هذه القضايا هي قصص أقرب للخيال في شناعتها لكنها في الواقع حقيقية أكثر من اللازم، راح ضحيتها بريئات نلن من العقاب البشري أكثر من العقاب الدنيوي الإلهي، سواءا لأفعال ارتكبنها أم لم يرتكبنها، فكان العقاب موحّدا ببساطة ومتمثّلا بانتشال أرواحهن من أجسادهن! بعض هذه القصص للأسف تُروى لأيام ثم تختفي تماما! لكن ماذا لو حاولنا الغور قليلا والبحث عن بداية الخيط الذي قد يوصل الإنسان لهذه النهاية المأساوية؟

منذ البداية، عندما يخرج الطفل من رحم أمه مستقبلا حياته الجديدة، يأتي ومعه احتياجات فطرية قد أوزعها الله فيه تُبقيه على قيد الحياة، منها الحب. عندما تولد وحتى تكبر أنت تحتاج أن تشعر بالحب منك وإليك. ومن البديهي أننا عندما نربي طفلا فنحن نُشبع احتياجاته بدايةً قبل أن نبدأ في تربيته ووضع القوانين، هل من المعقول أن نعطي طفلا جائعا تعليمات ونصائح في التربية والأخلاق وهو يتضوّر جوعا؟ وماذا نتوقع منه أن يفعل لو مرَّ بجانبة شخص يحمل خبزا شهيا يعرضه عليه بينما نحن نوبخه؟ الاحتمال الأكبر أنه سيتركنا ويلحق بحامل الخبز، لأن ما يحتاجه في لحظتها بحقّ هو الطعام وليس التربية. والجوع له أشكال متعددة وليس شكلا واحد، فهناك الجوع للطعام، ومن مثله الجوع للحب، والاحترام، والاحتواء.

فالإنسان عندما يَحرِم من هم تحت وصايته إناثا وذكورا من هذه الاحتياجات الفطرية الطبيعية، ستحدث عواقب كارثية إلا في حالات استثنائية. والمرأة في العاطفة والحب تحتاج بفطرتها أكثر من الرجل، وقد وصى سيدنا محمد بالمرأة في كثير من المواضع، فقد قال: "استوصوا بالنساء خيرا" و"رفقا بالقوارير"، "وما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم"، وهل يُقصد من هذا كله إلا أن تُعامل المرأة برفق واحترام؟ أن توصي شخص على شخص آخر؛ يعني أن تطلب منه أن يضاعِف الاهتمام بالشخص المعني، وهو هنا المرأة، ولا يُفهم من إسقاط ركن من أركان الإسلام عنها ألا وهو الصلاة في حال حيضها، إلا أن لها معاملة خاصة، ونحن في مجتمعاتنا بدلا من أن نضاعف حبّنا للأنثى هذا الكائن الرقيق، نحاول أن نجفف منابع الحب لديها بداعي أن ما تطلبه هو مضيعة للوقت ودلع زائد، ثم إن هي ارتكبت الخطأ عاقبناها مباشرة بقتلها بدلا من البحث فيما تحتاجه حقا ممن حولها.

دورك يا مَن تتدّعي الحفاظ على الشرف بقتلك إنسان أن تعطي حبا وتفهّما بدلا من أن تنتشل روحا من جسد، وللأسف أنها في معظم الوقت لمجرد شكوك في رأسك أو بذور قد تم زرعها في عقلك ممن حولك، وأن تدرك أن العار الأكبر يكمن في طريقة تفكيرك التي جعلت منك وحش كاسر على مخلوق أضعف منك (جسديا). دورك أن تنظّف عقلك ونواياك مما قد تعفّن فيها من أفكار وخواطر لا دخل للضحية بها في كثير من الأحيان، فإذا كان في ديننا بعض الظن إثم، فما بالك بالقتل الذي مصدره بعض الظن. المجتمع الذي تريد أن تغسل عارك أمامه وترضيه لن يرضى، ولا رب العزة عن الظلم يرضى، وقتل النفس من أعظم الجرائم الظالمة التي قد تُرتكب في حق أي إنسان على وجه الأرض، ولا يحق لأحد أن ينتزع هذا الحق منه من البشر أيا كان.

المرأة مكلّفة بالعفة وستُحاسب إن هي أذنبت تماما كالرجل، ولن يُعفى أحد من الحساب بين يدي الخالق بناءا على جنسه، هي مكلَّفة بحفظ نفسها وصون عفّتها، وهذه من الأمور التي لا ينبغي التهاون فيها. فإذا كانت سيدتنا مريم قد خافت على سمعتها وشرفها عندما بشرّتها الملائكة بني الله عيسى "قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا"، فقد كان في حسبانها سمعتها وشرفها، هذا وهي الطاهرة العابدة المؤمنة التي تقضي معظم وقتها في محرابها تتعبد الله، لم تتجاهل نظرة المجتمع الظالمة لها ولأسرتها ونسَبها، وهو فعلا ما حدث عندما رآها قومها تحمل عيسى عليه السلام بين يديها، وأول ما واجهت مجتمعها اتّهمها بالانحراف حتى قبل أن يسمع منها أو يفهم القصة "يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا"، فهذه الهجمات القائمة على الظنون والشكوك موجودة منذ زمن بعيد، لكن الإنسان الفطِن يستمع قبل أن يحكم، فما بالك قبل أن يقتل!

أيها الأب ازرع حبا في قلب ابنتك، ازرع رجولة حقيقية في قلب ابنك، ولا تزرع ذكورة تجعل منه يعتقد أنه أفضل منها أو متحكم بها بلا قيود تردعه إن هو تمادى، هو مسؤول عنها ومكلّف برعايتها بما يُرضي الله، وليس مسيطر عليها بما تهوى نفسه. نحن كمسلمون هناك دين يحكمنا وليست أهواء نفوسنا التي هي معظم الوقت أمّارة بالسوء، لذا كان من باب العدل أن نحكّم ديننا وضمائرنا بدلا من ظنون وشكوك يزرع بذورها في رؤوسنا الشيطان ومن على شاكلته من البشر، ولنلتزم بديننا قولا وفعلا وليس انتقاءا بما يتناسب وأهواءنا.. وللكلام بقية (يتبع الجزء الثاني).

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان