شعار قسم مدونات

ذكريات أول خطبة جمعة

blogs منبر

كنت في المرحلة الثانوية، وكان اليوم جمعة في إحدى سنوات أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، لكننا ذهبنا إلى المدرسة الواقعة بإحدى مدن محافظة كفر الشيخ في دلتا مصر للمشاركة في معسكر كشفي ترفيهي يقام لعدة ساعات من النهار، فور وصولنا صباحا، انخرطنا في أنشطة مختلفة منها القراءة في المكتبة وتنظيف المدرسة ولعب الكرة فضلا عن أعمال أخرى حتى جاء وقت صلاة الجمعة، وقيل لنا إننا سنصلي في المدرسة ولن نخرج إلى أحد المساجد المجاورة.

وبما أن مدير المدرسة الأستاذ محمد منصور عليه رحمة الله كان حاضرا على رأس عدد من المدرسين فقد توقعت أن يكون خطيب الجمعة هو المدير أو أحد مدرسي اللغة العربية والتربية الدينية الموجودين بالمعسكر، لكن توقعاتي لم تكن في محلها.

ذهبنا للوضوء وأثناء وضوئي جاء إلى جانبي الأستاذ محمد سليمان الأخصائي الاجتماعي للمدرسة آنذاك، وبينما هو يتوضأ فاجأني قائلا: استعد يا بطل فستخطب أنت الجمعة! نزل الخبر على تلميذ المرحلة الثانوية كالصاعقة، فلم أتوقع شيئا مثل هذا، ولذلك فما إن أنهيت الوضوء حتى حاولت مجادلة الأخصائي الاجتماعي لكنه أخبرني أن الأمر قد تم حسمه وأن هذه هي تعليمات المدير.

في ذلك الوقت لم يكن أحد من التلاميذ بإمكانه أن يعصى للمدير أمرا، وإذا كان السبب لدى آخرين هو الخوف من عصاه في الحالات العادية أو لدغته الثنائية التي اشتهر بها والتي كانت تتضمن قلما على الوجه ثم "شلوتا" خاطفا بيسراه، فقد كنت أنا محصنا من هذا السبب فأنا طالب متفوق كما أن والدي رحمه الله كان مدير الإدارة التعليمية آنذاك، لكني كنت أخاف لسبب آخر هو أني لا أحب أن يسمع أبي أي شكوى مني من أحد مدرسيّ الأفاضل، فما بالك لو كان المشتكي هو مدير المدرسة.

إعلان
قلت إني طالما كتبت موضوعات عن الأخلاق فلتكن الخطبة عن مكارمها، ولن يحتاج الأمر إلى بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ومعها قصة من التراث

حاولت المجادلة مع مبعوث المدير بأني لم أخطب الجمعة من قبل وأن الأمر يحتاج لاستعداد مسبق، لا أن أعلم به قبل دقائق قليلة من موعد الصلاة، لكنه أخبرني أنه تناقش مع المدير وأن الأمر محسوم! وكي يقنعني أن القرار تم اتخاذه على بصيرة قال: إننا نتابعك يوميا في الإذاعة المدرسية ولاحظنا قدرتك على الخطابة والارتجال، كما أن مدرسيك في مادة اللغة الغربية أخبرونا أنك تتألق في حصة التعبير وعندما يحددون الموضوع الذي يجب كتابته في المنزل وتسليمه بعد أسبوع تتطوع أنت وتتحدث فيه بشكل شفهي! وختم الأستاذ محمد كلامه قائلا: "يا أخي اعتبرها حصة تعبير وهتقوم تقول موضوع تعبير شفوي عن الصلاة أو الأخلاق أو ما شابه"!

سلمت أمري لله، ونظرت للأمر بهذا المنظور، وقلت إني لطالما كتبت موضوعات عن الأخلاق فلتكن الخطبة عن مكارمها، ولن يحتاج الأمر إلا إلى بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ومعها قصة من التراث وستكون الأمور على ما يرام، دخلت المسجد وصعدت إلى المنبر، وكان في الحقيقة مجرد كرسي خشبي جلست عليه حتى رفع الآذان وكانت أصعب اللحظات، فكرت فيما يمكن أن يحدث وقررت أن أتجنب النظر إلى وجوه الزملاء كي لا أجد أحدهم يضحك أو ينظر لي بشكل معين فيخرجني عن تركيزي!

وبفضل الله سارت الأمور بشكل جيد، لكن ما لم يكن في الحسبان أني عندما أردت إنهاء الخطبة الأولى والجلوس للدعاء بين الخطبتين، نسيت ما يقوله الخطباء عادة في تلك اللحظة من تمهيد يكون غالبا بحديث شريف يتبعونه بقولهم: وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ادعو الله يستجب لكم، مرت لحظات وكأنها دهر وأنا أحاول التقاط طرف الخيط دون جدوى، سمعت بعض الأصوات كانت لمدرسين حاولوا مساعدتي لكن المشكلة أني لم أكن قد توقفت في منتصف آية أو حديث أو نحوه، ولذلك فقد احتاروا في كيفية مساعدتي، بينما كان التوتر قد بلغ مني مبلغه!

إعلان

ووسط همهمات لم أتبين مضمونها، جاء الفرج من الله عز وجل حيث قلت لنفسي: وما الداعي لتذكر حديث أو مدخل لمطالبة المستمعين بالدعاء، طيب ما أطلب منهم إنهم يدعوا من غير مقدمات! وبصوت متحشرج عكس ما كان طول الخطبة قلت لهم: ادعوا الله، وجلست على الكرسي وأنا أتصبب عرقا.

طبعا الخطبة الثانية كنت سهلة، حمد لله وأمر بتقواه ثم انطلقت سريعا لمجموعة من الأدعية المأثورة، وختمت بالدعوة لإقامة الصلاة، ولا أذكر هل كنت أنا الإمام أم تركت الإمامة لأحد الأساتذة واكتفيت بالخطبة!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان