"فــي الســتينيات مــن القــرن الماضــي، كان غســان كنفانــي يشــق خطواتــه الأولى فــي مجـال الصحافـة، لكنـه اختـار أن يختفـي وراء اسـم "أبـو العـز" فـي بيئة عربيـة مدموغة بتقديـس "القوميـة" و"الضبـاط الأحـرار". مضـت الأيـام، وصـار صاحـب "رجـال فـي الشـمس"، صحافيـا مشـهورا يوقـع مقالاتـه اللاذعـة ضـد الاحتـلال الصهيونـي باسـمه، قبـل أن يتحـول جسـده إلـى أشـلاء: لقـد دفـع ضريبـة أن تكتـب باسـمك الحقيقـي" .. انتهى الاقتباس.
ما سبق كان مدخلاً لكتاب جديد صدر عن معهد الجزيرة للإعلام بعنوان "صحفيون خلف أسماء مستعارة". تنطلــق فكرته مــن أن يتخلص الصحافيون مــن أسـمائهم الحقيقيـة ويتقمصـوا أسـماء مسـتعارة، كـي يتخففـوا مــن القيود ويكونوا فــي حـل مــن القوانيـن المكتوبة والعرفية.
حقيقة هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها مؤسسات إعلامية أو أدبية بربط اغتيال الأديب الفلسطيني غسان كنفاني بعمله الصحفي، ولا أحسب ذلك تقصيراً في اطلاع تلك الجهات على مسيرة الكاتب النضالية وسيرته السياسية، وإنما شكل من أشكال احتفاء الصحافة بقيمة كبيرة بحجم غسان، وهو أمر يمكن إرجاعه إلى الأنا العليا للمهنة التي تأبى إلا أن تفض الشراكة مع مهن أخرى زاولها أولئك الاستثنائيون، تماماً كما ينظر السياسيون إلى الشاعر الراحل نزار قباني باعتباره دبلوماسياً، فيما يراه الشعراء والنقاد حالة شعرية خاصة في تاريخ الأدب العربي.
بعيداً عن عمله الأدبي، انخرط غسان كنفاني في العمل السياسي والتنظيمي في أواخر ستينيات القرن الماضي، وساهم في رسم توجهات وسياسيات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، باعتباره عضواً في مكتبها السياسي، وقد ارتكزت تلك السياسات على الكفاح المسلح والعمليات الفدائية التي أصبحت نهجاً للجهة وخطا لا تحيد عنه، في سبتمبر من عام 1970، قام عناصر من الجبهة الشعبية بخطف ثلاث طائرات واحتجاز ركابها في مطار عسكري بالأردن، للمطالبة بإطلاق سراح سجناء فلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية، وقد برز غسان آنذاك في واجهة الأحداث باعتباره المتحدث باسم الجبهة.
أيضاً ربطته علاقات وطيدة مع حركات تحرر ومنظمات ثورية عالمية، خصوصاً وأنه كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وهو ما مكن الجبهة من نسج علاقات قوية مع حلفاء دوليين كان لهم دور كبير في دعم نشاطها السياسي والعسكري، وقد أثمرت هذه العلاقات عن قيام عناصر من الجيش الأحمر الياباني في الثلاثين من مايو 1972، بشن هجوم مسلح في مطار اللد، أسفر عن مقتل 26 شخصاً وإصابة ثمانين آخرين، وكان من بين القتلى شقيق الرئيس الإسرائيلي السابق إفرايم كاتسير، كل ما سبق جعل غسان كنفاني هدفاً للموساد الإسرائيلي، حيث أدرج اسمه على قائمة جولدا مائير الشهيرة، فكان أن اغتيل في صبيحة الثامن من يوليو 1972، أي بعد أقل من شهرين على عملية اللد، وذلك بتفجير سيارته في العاصمة اللبنانية بيروت، بواسطة عبوة مفخخة حولت جسده إلى أشلاء، في جريمة تركت أثراً بالغاً في نفوس الفلسطينيين.
قبل ساعات من كتابة هذه الكلمات خضت نقاشاً مع زملاء صحفيين حول الأسباب التي دفعت إسرائيل لاغتيال غسان كنفاني، فقال أحدهم إن عمل غسان في السياسة كان محدوداً، وإن كتاباته الصحفية والأدبية هي التي أزعجت قادة الاحتلال فقرروا تصفيته. فرددت بأن إسرائيل رغم دمويتها فإنها لم تقتل فلسطينياً واحداً لأنه كاتب مؤثر، ولو أرادت ذلك لقتلت محمود درويش، وسميح القاسم، وإدوارد سعيد والقائمة تطول، فأخذ النقاش منحى آخر، واتُهمت بأني أبرئ إسرائيل من دم الشهداء الفلسطينيين، بل ذهب أحدهم إلى اعتبار ذلك شكلاً من اشكال التطبيع، لكني في الحقيقة كنت أبرئ الأدب والصحافة من تهمة التسبب في اغتيال من قُتلوا بسبب أنشطتهم السياسية والتنظيمية وأحياناً العسكرية.
كدنا أن نفض النقاش لولا أن قفز اسم رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، باعتباره أحد الضحايا الذين قتلتهم إسرائيل بسبب نتاجهم الأدبي. فعدنا من حيث بدأنا: اغتيل ناجي بسبب خلافه مع الأنظمة العربية، وقد كان هناك خلاف شخصي بينه وبين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بسبب انتقادات لاذعة وجهها لقادة منظمة التحرير، فضلاً عن أن معظم رسوماته كانت تتمحور حول التخاذل والتقاعس العربي عن نصرة فلسطين، أي أن الاحتلال لم يكن موضوعاً أساسياً في أعماله الفنية.
في الطريق إلى البيت، أجريت مراجعة سريعة، لعلي كنت متطرفاً وقد فُسر هذا التطرف على غير مقصده. وبعد دقائق تيقنت بأني كنت موضوعياً في سياق محفوف بحساسية مفرطة تجاه دماء الشهداء الذين هم أكرم منا جميعاً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.