شعار قسم مدونات

بين نهاية التاريخ وكورونا.. ماذا تبقى للنموذج الليبرالي الغربي؟

blogs كورونا

بعد نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية كقائدة للمعسكر الغربي والاتحاد السوفيتي كقائد للمعسكر الشرقي قام الكاتب والفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس فوكاياما بنشر مقالته "نهاية التاريخ" في مجلة "National interest" في صيف 1989. وأُطْروحَتهُ الأساسيَّة أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية ونظرا لما لقيته المقالة من احتفاء كبير في الأوساط السياسية والاقتصادية الغربية كنصر للفكر الغربي قام بتحويل مقالته إلى كتاب بذات الاسم عام 1992.

ثم تبعه صمويل هنتجتون بكتابته مقالة بعنوان صراع الحضارات "The Clash of Civilizations" في مجلة "Foriegen Affairs"، والذي قام هنتجتون بتحويله إلى كتاب بعنوان "صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي"، والذي يقول بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيسي للنزاعات بين البشر في السنين القادمة ويفترض أن الدول الغربية (أمريكا والاتحاد الأوروبي واليابان) حاملة لواء النموذج الرأسمالي الليبرالي المنتصر ستواجه الثقافات والحضارات (المتخلفة) وستكون هناك صراعات ويفترض أن الصدام الوشيك سيكون مع الحضارة الإسلامية ولسنا في معرض استعراض كامل الأطروحتين في هذه المقالة.

لكن ما يعنينا هو إلى أي مدى كانت الأطروحتين اللتين وإن حملتا بعض الاختلافات ولكن في المجمل اتفقتا على حتمية حدوث صراع ما ليسود النموذج الرأسمالي الليبرالي (المتكامل) بقِيَمه عن الحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، قيم عليها شبه إجماع بين نخب العالم بشكل عام ولكن عند التطبيق يتضح أن كثير من الإشكالات تظهر في بنية هذا النموذج فحتى الآن لم يستطع النموذج تحديد العلاقة بين الدولة والمواطنين بصورة دقيقة كما أن النزعة الفردانية لم توضع لها حدود تضمن حقوق جميع الأفراد، كما أن الحرية الاقتصادية والنظام الاقتصادي التي مع التطبيق تحولت إلى نظام أشبه بالعبودية، حيث يجد الفرد نفسه ملزما بالعمل في أكثر من وظيفة فقط ليستطيع أن يفي بمتطلبات حياة الرفاهية المفروضة عليه وليعيش مثقلا بسداد الضرائب والفوائد الرأسمالية التي تصب في جيوب الطبقة البرجوازية والرأسماليين الذين لا ينظرون إلى من يرون أنفسهم أحرارا في ظل النظام الليبرالي إلا كبراغي في ماكينة يجب أن تدور بدون توقف.

وضعت الجائحة النظام الاقتصادي الليبرالي في مأزق كبير فالصراع محتدم بين من يعطي الاقتصاد أولوية على البشر وبين من يعطي الجانب الإنساني أهمية أكبر فلقد اعتادت الدول أن تستفيد من العجلة الاقتصادية التي تستمر بضخ الأموال

هذه المقولات المتعجلة أيضا لم تلحظ الأزمة البنيوية الكامنة في الدولة الديمقراطية الليبرالية، والمتمثلة في التوتر الأساسي بين مفهوم الديمقراطية القائم على فكرة المشاركة الشعبية من جهة، والمساواة التي تفترض قدرة المواطن على التعبير عن مصالحه وتقرير مصيره عبر صيغة تمثيلية تنتج نخباً سياسية تعبر عن هذه المصالح في البرلمان، وبين الليبرالية التي تفترض حماية الحقوق والحريات الأساسية والملكية الخاصة من تعسف الدولة، الأمر الذي يتطلب تقييد سلطات الدولة في هذا الإطار.

لقد قامت جائحة كورونا بتوجيه ضربة موجعة للدول الرأسمالية في طورها الأخير الفردانية الليبرالية والسوق الحر والعولمة، فقد تبخرت المعتقدات الليبرالية أمام حقيقة الخطر الداهم لوباء عابر للدول والحدود فانتصبت الحواجز وأقيمت المتاريس، وعادت السلطة المركزية بقبول تلقائي من المجتمع لتقبض على مقاليد الأمور وتصدر القرارات العرفية التي ينصاع لها الجميع بلا اعتراض، الدولة الوطنية التي تمارس أقصى مظاهر السيادة على أرضها وحدودها وشعبها وتضطلع بمسؤوليتها في حماية مجتمعها الخاص دون أدنى اعتبار لأي جهة أخرى بما في ذلك مصالح الأعمال والشركات العابرة للقارات. وتصدر الدولة في ألمانيا والولايات المتحدة قرارات اقتصادية لحماية شركاتها واستثماراتها التي هوت أسهمها بالسوق فتفتح صنبور الدعم والتمويل غير المحدود بالقروض أو بشراء الأسهم وتملك أجزاء من الشركات وربما إذا ساءت الأمور تؤمم القطاع الصحي أو تسيطر بقوة القرار العرفي على أي مؤسسات صحية لتسخيرها في مواجهة الوباء.

فالتدابير التي اتخذتها الدول الأوروبية، مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا، لفرض الحجر المنزلي، واستعمال بيانات نظام تحديد المواقع المعروف GPS، إضافة إلى استخدام طائرات الدرونز من أجل تعقب مخالفي حظر التجول، هي تدابير بحسب دساتير وقوانين أوروبية فيها تعد على الحريات (وهو من صلاحيات القضاء بموجب قانون فصل السلطات) وتقتضي في الحالات الطبيعية، تأكيد موافقة برلمانية عليها، لكنها اليوم باتت مقبولة، بل تنتقد وسائل الإعلام الأوروبية الحكومات، بسبب التأخر في اتخاذها.

لقد وضعت الجائحة النظام الاقتصادي الليبرالي في مأزق كبير فالصراع محتدم بين من يعطي الاقتصاد أولوية على البشر وبين من يعطي الجانب الإنساني أهمية أكبر فلقد اعتادت الدول أن تستفيد من العجلة الاقتصادية التي تستمر بضخ الأموال لا أن تجد نفسها مضطرة للتعامل بالعكس لإنقاذ الاقتصاد واحتواء آثار كورونا الاقتصادية فمثلا في الولايات المتحدة، تقدم أكثر من 6.6 مليون شخص بطلبات للحصول على إعانات البطالة، بعد تحطيم الرقم القياسي الذي ظل قائما لفترة طويلة بنحو 695 ألف طلب، والذي جرى تسجيله في عام 1982.

لقد قدمت الصين مثالا لأداء سلطة الدولة الفعال في هذه الظروف بأقوى وأفضل من الأنظمة الليبرالية، فليس هناك جهات خاصّة وأفراد يمكن الركون إليهم للقيام بمهمة إنقاذية عامّة لحياة المواطنين إنها مسؤولية الدولة بامتياز. وهكذا بعد تمجيد القطاع الخاص والعائلات والأفراد وخياراتهم الحرّة يعود المجتمع بوصفه كينونة تسمو سلطتها وإرادتها التي تمثلها الدولة فوق الأفراد وكشيء لا يمكن الاستغناء عنه، وإذا صحت الأخبار فغدا سيمتد ذلك إلى أسواق المال والأسهم لأن الصينيين يشترون بكثافة أسهم الشركات المتهاوية والدول الغربية لن تقبل أن تفيق على حقيقة امتلاك الصين لها وسوف تتدخل ولو بالضد من مبادئ حرية المال والأسواق.

وقبل أيام نشرت مجلة "Foreign policy" مقالا تحت عنوان “كورونا فيروس يقتل العولمة” ولاحظ المقال أن الاضطراب المؤقت الذي صنعه الوباء لسلاسل التزويد العالمية وفي مقدمتها الصين قد يكون له أثر دائم بالنظر لدروس مخاطر الاعتماد الوطني بالكامل على سلاسل تزويد عالمية موزعة لأجزاء السلع والخدمات وهو ما يعني أن العولمة تتعرض لضربة قاصمة.

الجائحة الصحية وضعت الديمقراطية الليبرالية في مواجهة مع النفس فلقد حاولت اغلب هذه الدول في البداية منح المواطنين الفرصة للتصرف بحرية في اختيار الحجر الصحي وتطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي اختياريا (انسجاما مع مبادئ الليبرالية) ولكن مع تفاقم الأزمة اضطرت إلى استخدام قوة يد الدولة، وهنا تبرز التساؤلات إلى أي مدى ستستمر هذه الحالة الاستثنائية وهل تكرارها يتناقض مع مبادئ الليبرالية وهل لابد من مراجعة أهم المبادئ التي تقوم عليها الليبرالية الغربية أو على الأقل تطبيقاتها، هل تحتاج إلى بعض المرونة في تطبيق مبادئها، مرونة قد تتوفر بصورة أفضل في الليبرالية الاجتماعية (المتقاربة مع النموذج الاشتراكي) المطبقة في بعض الدول مثل السويد والنرويج التي أعلنت مؤخرا نجاحها في احتواء الوباء.

إذن من الضرورة بمكان أن لا يكتفي قادة الغرب بالحد من انتشار مرض فيروس كورونا ،بل يتعين عليهم أن يعملوا أيضا على تعزيز التماسك الاجتماعي، وابتكار مسار جدير بالثقة للعودة إلى النمو والحالة الطبيعية، وإعادة تنشيط القيم والمؤسسات التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية الليبرالية، حتى لو تمكن قادة الغرب من الحد من تداعيات تفشي مرض فيروس كورونا في الأمد القريب، فإن هذا لن يعني الكثير دون بذل جهود تستند إلى نظرة إلى المستقبل لتعزيز الأنظمة الديمقراطية الليبرالية من الداخل.

على النظام الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي أن يكون أكثر إنسانية وان يعطي الدولة دورها الذي لا يمكن لغيرها القيام به في الحفاظ على الأرواح والرعاية الصحية التي يجب أن تكفل للجميع، وتعزيز روح المواطنة والمصير المشترك لكافة المواطنين في الدولة الواحدة والمصير المشترك للبشر جميعا باعتبارهم يعيشون في عالم واحد وإصلاح النظام الاقتصادي الليبرالي الجائر بنزعته الفردية المطلقة وكبح جماح الطبقات التي لا يهمها سوى أن تمتلئ خزائنها بالمليارات. إن الفكر المتشدد والانحياز المطلق لأي نظام أو فكرة في هذا العالم لن تكون نتيجته إلا العنف.. فمن صراع الحضارات إلى حرب الكمامات هذا ما ينتجه التعصب الأعمى نحو فكرة "أنا ومن بعدي الطوفان".

ختاما لكل نظام في هذا العالم ميزاته ومساوئه ولا يوجد نظام واحد قد يصل مرحلة الكمال ويدَعي انه نهاية تطور الأنظمة في العالم فكل ما توصلنا له في هذا العالم هو حصيلة تلاقح الثقافات والأفكار بين جهات وحضارات مختلفة في أزمان متفرقة ونحن كبشر نعيش في عالم واحد الله خلقنا لنعمر الأرض ليس بالصراع وإلغاء الآخر وإنما بالحوار والتعايش مع الآخر. ويبقى التساؤل ماذا أبقت كورونا على أطروحتي صراع الحضارات ونهاية التاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.