إن الأنظمة السياسية في مرحلة ما قبل الجائحة تنقسم إلى ثلاث: نظام ديمقراطي يحمي الحرية والحقوق الأساسية للبشر ونظام في الطريق للديمقراطية يضمن الحد المقبول من الحرية ونظام استبدادي يقوم على القمع الكلي للحرية. وكانت الشعوب إما في الطريق للبحث عن بديل عن الدولة الديمقراطية التي لم تعد تلبي طلبات الحرية الكاملة المتزايدة في الدول الديمقراطية وشعوب تسعى نحو الديمقراطية وتحويل الحرية من الجزئي إلى الكلي الديمقراطي وشعوب على حافة الهاوية وعلى أبواب الثورة الدموية المدمرة.
وفي كل هذه الأنظمة فإن الدولة هي التي تسير المجتمع وتحدد توجهاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي الأغلب كانت ثقافة القطيع هي السائدة في المجتمعات البشرية وكان الاستهلاك هو سيد تلك الثقافة باعتبار أن الاستهلاك هو القيمة المنتجة للثروة في مجتمع العولمة وسيادة الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات والدول. وهي ثقافة ألغت الحدود بين الدول وضربت في مقتل مفهوم الدولة الوطنية.
ذاك كان الوضع في مرحلة ما قبل الجائحة أما اليوم في مرحلة الجائحة فإن الفيروس العابر لكل الحدود والقارات والدول هو الذي يحدد السياسة العالمية اليوم بل أصبح هو الحاكم المطلق في كل دولة من دول العالم وفرض على كل الأنظمة السياسية أن تمارس سياساتها طبقا لما يريده هو وليس لما تريده هي. لقد اجتاح الفيروس الفضاء العام الذي تنطلق منه الإرادة العامة للشعوب ليصبح هو الإرادة العامة. حتى أشد الأنظمة استبدادا وقمعا لشعوبها أصبحت خاضعة لهذا الفيروس ومثلما سجنت ونكلت بشعوبها نكل بها الفيروس وأصبح الحجر الصحي هو السجن الخاص بهؤلاء المستبدين وأصبح الموت يحيط بهم من كل زاوية. لقد فرض الفيروس على الدول العودة لحدودها الوطنية والانغلاق على ذاتها.
العالم ما بعد الجائحة ليس العالم كما كان قبله ولعل أهم توقع يتمنى البشر تحقيقه أن تدرك الدولة أن وظيفتها خدمة المجتمع وليس الطبقات المهيمنة |
لقد هيمن الفيروس على كل برلمانات العالم وعلى كل اجتماعات مجالس الوزراء والرؤساء وقادة الجيوش. لقد فرض على الجيوش أن تحارب عدوا خفيّا مجهولا لا تنفع معه كل الترسانة العسكرية التي خزّنها العالم طيلة نصف القرن الأخير. كل هذه الأسلحة عاجزة عن حماية الوجود البشري أمام عدو يستهدف الحياة ليحيا هو. إنه كائن لاحي يقتات من الكائن الحي ليحقق كينونته الخاصة ذاك هو الكورونا. الكورونا الذي تحول للحاكم المطلق لمرحلة الجائحة فهو المهيمن والمسيطر والقاهر فوق كل البشر. لقد كشف العجز الكلي للمؤسسات السياسية التي بناها البشر طيلة العصر الحديث وأسقط كل الأيديولوجيات بالضربة القاضية.
إن الكورونا كشف عورات النظام السياسي الوطني والعالمي وبيّن أن الحل الوحيد للمجتمع البشري في الدولة الراعية التي تعيد الاعتبار لمصلحة المجتمع وحاجياته الأساسية على حساب دولة الرأسمالية المتوحشة التي سادت عصر العولمة وحان التحرر منها. ولكن تحقق هذا الهدف يستوجب فهم الدرس الذي قدمته الجائحة للمجتمع البشري عموما وللدول المستبدة بشكل خاص. إن الواقع الذي نلاحظه في بعض الدول التي يحكمها المستبدين أنهم استغلوا هذا الوباء لمزيد التنكيل بشعوبهم بل أصبح بالنسبة لبعضهم فرصة ذهبية للتخلص من النمو السكاني الرهيب عبر استغلال التأثير القاتل للفيروس على كبار السن مثلا للتخلص من ملايين منهم ولذلك كان رد فعل بعض الدول الاستبدادية متأخر عمدا حتى يقوم الفيروس بالاختيار الطبيعي ويضمن البقاء للأقوى من الكائنات البشرية الحية.
كما كشف الكورونا وحشية أمراء الحرب في بعض الدول كليبيا مثلا حيث وصل الأمر بحفتر إلى قصف المستشفى المختص برعاية مرضى كورونا. لقد كشف الفيروس مدى سادية ووحشية هذا الرجل الذي لا يتورع على شيء في سبيل تحقيق هوسه المرضي بالسلطة والسيطرة إنه المثال السيء لما يكون عليه الإنسان حين يفقد إنسانيته وإيمانه وقيمه الأخلاقية والإنسانية، الكورونا فضح السادية الوحشية للكثير من الحكام المستبدين وأنهم لا ينتمون للإنسانية إلا في أشكالهم الخارجية فقط. ففي النهاية قام الفيروس بتعرية لا أخلاقيتهم ولا إنسانيتهم والفراغ الروحي الكامل الذي يعانون منه.
كما فضح الإعلام الفاسد في تونس فهو أيضا مجرم حرب مثله مثل من يدافع عنهم من الرأسماليين الوحشيين والنواب والمسؤولين الفاسدين. لقد تحول هذا الإعلام إلى شوكة في ظهر المجتمع تدمر كل ما تقوم به الدولة لإنقاذ الأرواح البشرية. فما يهم هؤلاء الإعلاميين هو فشل خصومهم السياسيين ولو على حساب الشعب. فالمهم بالنسبة لهم ليس مصلحة الشعب والحفاظ على حياته بل مصلحة من يمولهم وينمي ثرواتهم من مافيات داخلية وقوى خارجية مهيمنة. فهم كلاب الحراسة الأيديولوجية والهيمنة الداخلية والخارجية للمافيات التي تمول تلكم القنوات والإذاعات.
لقد سيطر الفيروس على كل العالم وأصبح المتحكم الوحيد في مصير ومسار العالم في مرحلة الجائحة ولعل ذلك قد يدفع العقلاء للتفكير فيما سيكون عليه العالم في مرحلة ما بعد الجائحة. فالأكيد أن العالم ما بعد الجائحة ليس العالم كما كان قبله ولعل أهم توقع يتمنى البشر تحقيقه أن تدرك الدولة أن وظيفتها خدمة المجتمع وليس الطبقات المهيمنة وأن تعيد الاعتبار لدور الرعاية لها فتهتم بالحاجات الأساسية للمجتمع في التعليم والصحة والأمن والغذاء. فبدون الاهتمام بهذه الأساسيات لا يمكن للبشرية أن تواجه الجائحة القادمة.