شعار قسم مدونات

كيف أمسك عقل التنين بالفئران؟

BLOGS الصين

 التقدم الصيني في عالم الأفكار هو الذي قاد الاقتصاد الصيني نحو الازدهار، فوفق فلسفة (مالك بن نبي) رحمه الله يبدأ التقدم أولًا بخلق عالم أفكار حافزة تجاه الفاعلية والخصوبة الحضارية، والأجيال القيادية الصينية قدمت نموذجًا متقدمًا في مجال خلق الأفكار الحافزة والحاشدة للجموع الصينية وتحقق لها ذلك عبر المسيرة التاريخية التالية.

 

أجيال القيادة الصينية وعالم الأفكار

يُقسم السفير/ محمد خير الوادي – سفر سوريا في الصين سابقًا – قيادات الصين الشعبية إلي أربعة أجيال، وهي:

1- جيل ماو 2- جيل دينغ تشاو بينغ         3- جيل جيانغ زيمين     4- الجيل الحالي جين تاو

 

كل جيل منها ساهم في إبحار الأمة الصينية مسافات نحو المستقبل عبر أشرعة الأفكار الجديدة الحافزة للمجتمع الصيني نحو بذل الجهد والعرق لنيل حرية التراب الصيني من الهيمنة، والتخلص من المجاعات والمرض، والانتقال إلى ساحات التقدم وإمكانية الفعل. وسنتناول هذه الأجيال القيادية من زاوية الأفكار الحافزة والحاشدة التي طرحوها وكان لها الأثر البالغ في تفعيل عالم المشاريع والعلاقات في النهضة الصينية الحديثة.

 

أولًا: جيل ماو وإمكانية الفعل: نشأ هذا الجيل وسط موجات متلاطمة من التحديات تكاد تعصف بالسفينة الصينية وتقضي عليها كليًّا، فعلى المستوى الصحي: كان في الصين قرابة 100 مليون مدمن للمخدرات، ونسبة العمى كانت مرتفعة، والجهل كان مخيمًا على عامَّة الشعب، والانبهار بالغرب مهيمن على المثقَّفين، وأجزاء من الجسد الصيني مستعمرة من قبل الإنجليز واليابانيين، وأحد المعالم الكبرى للأمة الصينية (قصر الصيف) أكلته النيران الفرنسية والإنجليزية عام 1860م، بالإضافة إلى قوميات تريد الانفصال. وعلى الرغم من كل هذا نجح جيل ماو في تحرير الصين وتوحيدها وإخراجها من ذلك الجحيم في عام 1947 بواسطة الثورة الماوية، التي بشرت المجتمع الصيني بإمكانية الفعل والتحرر من المحتل الأجنبي والتمتع بصين موحدة وقوية وعزيزة مستفيدين من نجاحات الثورة السوفيتية مع الحفاظ على خصوصية الأمة الصينية عبر شعارهم (الثورة تبدأ في حقول الأرز). ووضعوا أول لبنة في مشروع النهوض الصيني (مرحلة التغيير)، عبر التبشير بالأمل وإمكانية الفعل والقدرة على التصدي للاحتلال الجاثم على صدرهم منذ عقود من الزمن.

 

جيل جيانغ زيمين هذا هو الجيل الثالث في القيادة الصينية، وقد ورث منجزات جيل دينغ الاقتصادية، التي نقلت الصين لمصافِّ الدول العظمى، وأصبحت السابعة عالميًّا من حيث المكانة الاقتصادية

ثانيًا: جيل دينغ تشاو بينغ: نسبة هذا الجيل تعود للقائد دينغ تشاو بينغ الذى خلف الزعيم ماو فى قيادة سفينة النهضة الصينية، ورث هذا الجيل منجزات جيل ماو في التغيير والتحرر من الهيمنة الخارجية، ولكنه في ذات الوقت ورث تركه ثقيلة وقاسية نتيجة زلازل الثورة الثقافية التي تركت ندوبًا اجتماعية واقتصادية وسياسية غائرة في وجه المجتمع الصيني التائق للنهضة، وبفضل أفكار جيل دينغ تجاوزت الصين هذه المحنة، وصنعت معجزة النهوض، ومن أبرز الأفكار الحافرة التي طرحها هذا الجيل شعارهم: (ليس المهم لون القط المهم أن يصطاد الفئران) بمعنى أن التحرر من أسر الشعارات الطنانة غير ذات الجدوى والفعالية على أرض الواقع. وقاد هذا الجيل مبدأ انفتاح الصين على العالم، وسعى للاستفادة من مزايا النظام الرأسمالي مع التمسك بالمبادئ الاشتراكية، فقد وجَّه هذا الجيل دعوة لكل الصينيين أن اغتنموا وراكموا الثروة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الثروة والغنى من مقومات النهوض.

  

ثالثًا: جيل جيانغ زيمين: هذا هو الجيل الثالث في القيادة الصينية، وقد ورث منجزات جيل دينغ الاقتصادية، التي نقلت الصين لمصافِّ الدول العظمى، وأصبحت السابعة عالميًّا من حيث المكانة الاقتصادية، ولكن هذا التقدم ترك أثارًا سلبية كبرى تتمثل في التفاوت بين الطبقات الاجتماعية فى الصين، وآثارًا على كيان الحزب الشيوعي فقد اتسعت الهوة بين نظرية الحزب وبين الواقع الاقتصادي المعاش، فركز هذا الجيل على فكرة وإستراتيجية (فتح النوافذ) التي تعني فتح نوافذ الحزب الشيوعي لكل أطياف النسيج الوطني وليس الطبقات العاملة فقط، بحيث يصبح الحزب بيتًا لكل الصينيين، وبالتالي تصبح مهمة الرفاق في الحزب تقديم مصلحة الأُمَّة على مصلحة الحزب، ومع تطبيق هذه الإستراتيجية ضُخَّت دماء جديدة في شرايين النهضة الصينية.

 

رابعًا: جيل جين تاو نسبة للرئيس الصيني الحالي جين تاو، هذا الجيل تبدو مهمته أثقل من الأجيال الثلاثة السابقة، فمطلوب منه تحقيق معدلات نجاح أسرع، وتجاوز إشكالات ربما تكون موروثة من الأجيال السابقة. ولتحقيق ذلك تبنى هذا الجيل فكرة وإستراتيجية ما يعرف بـ(نظرية المجتمع الاشتراكي المتناغم) التي سعى من خلالها إلى معالجة الظواهر الاجتماعية السلبية التي نتجت عن تحديث المجتمع الصيني، وما نتج عنها من تفشي الثراء الفاحش وسط قطاعات كبيرة من الصينيين، وما نتج عن ذلك من أمراض سلوكية غريبة على المجتمع الصيني، مع الحفاظ على معدلات نمو اقتصادية كبرى، ونجحوا في تلك المهمة إلى حد معقول عبر العودة للثقافة الصينية الأصلية التي تقدس +التناغم والطبيعة والأسرة، وما زال هذا الجيل يمارس إبداعه في فضاء الجسد الصيني.

 

ويتضح مما سلف مدى سبق عالم الأفكار وتأثيره في تحريك النهضة الصينية بدءًا من فكرة إمكانية الفعل، ومرورًا بفكرة ليس المهم لون القط، ثم فكرة فتح النوافذ، وأخيرًا فكرة المجتمع المتناغم، وعند هذه المحطة يرسو قلمي الذي جال في فضاء عالم الأفكار الكبرى التي حركت الرياح في أشرعة السفينة الصينية، آملًا أن تتاح الفرصة لقلمي أن يبحر معكم نحو شواطئ عالمي العلاقات والمشاريع التي أثرت في النهضة الصينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.