كثيرا ما شنّف الغرب آذاننا بتقدّمه وحضارته التي بلغت الآفاق، وكثيرا ما كنا نسمع ونقرأ أن الغرب صاحبُ الديمقراطيات، وكثيرا ما أُعجب المسلمون وغيرهم بتعامل الغرب مع الآخر أيًّا كان، وكتب الكثيرون من أبناء العرب والمسلمين ينادون بالاقتداء بالغرب في معاملاتهم وسياساتهم واعتبروها نموذجا رائعا للحياة في وقت كانوا يسبوّن الشرق وعاداته وتقاليده ويَسِمُونها بالتخلّف والرجعيّة والظلاميّة والفوضى والاحتكار، وتغنّى الشعراء العرب والمسلمون بقيم الغرب من الحرية والمساواة والديمقراطية، حتى صِرنا مقتنعين أنه الملاذُ الأخير والناعمُ لما يعانيه الشباب العربي من فقرٍ وبطالةٍ وتخلّفٍ وأميّةٍ.
ركِبَ الشبابُ المخاطر من أجل نيل الحرية في بلاد الحرية، والانطلاق بجناحيها في بلاد الخير والطبيعة البكر ووفرة العمل، لكن قد بانَ على من هاجر إليها في العقود الأخيرة من القرن العشرين أنه وجد مناخ الغِنى وتغيير منطق الحياة، فهناك من غيّر جلدته السمراء بجلدته البيضاء، في سلوكه وأخلاقه وتعامله وحرّيته، ونسي أن له أصحابا وأهلا في بلاده، وهناك من تشبّث بكل قيم الإسلام في بلاد الغرب وبقي على حاله ولم يتغير منه شيء، وهناك من أخذ بالوسطيّة فأخذ من الغرب ما يفيده في بلاده، وكلٌّ يغنّي على ليلاه.
هكذا كان الغرب في عيون الشباب العربي، بلاد الحرية والمال والانطلاق نحو حياة سعيدة مليئة بالثّراء، ولَّوْا وِجْهتهم إليه طمعًا في الحصول على منافع مادية، وبعضهم تأثّر بحضارته وثقافته، وأصبح يتحدث بلغته ويتبنّى أفكاره وينحو منحاه، فكثيرا من مثقفينا بهرتهم أفكار كارل ماركس، وجون جاك روسو، وبول سارتر، وفيكتور هوجو، وجورج هيجل، وغيرهم من الفلاسفة والكتّاب والأدباء الماديين الذين آثروا الحضارة المادية على الحضارة الروحية، وتأثّر الكثير من المسلمين بهذه الفلسفة الغربية حتى تبنّوا أفكارها وصاروا يدافعون عنها بقوة بل وينتقدون أو ينقدون الفلسفة الإسلامية القائمة على الأثر، وذهبوا إلى حدّ الاعتقاد بأنهم اعتمدوا الخرافة لتصوير واقع مؤلم تغْلُب عليه الفوضى العارمة، والتخلف والجهل والضعف وغيرها من المشكلات التي يعانيها العرب في زمن الخذلان والغفلة والانهيار الكلي خاصة بعد الاستعمار مما أوجد مجتمعا متعصبا تسوده العصبية والتشدد وحرمان المرأة من حقوقها، وجعلها تحت وصاية الرجل، وغيرها من الموضوعات التي كتب فيها كثير من العرب والمسلمين المتأثرين بحضارة والمنبهرين بها إلى أجل قريب.
لكن وفي الأزمات تظهر معادن الرجال كما يقال، وتتعرّى الثقافات التي بها عيوب، وتنكشف أقنعة من كانوا بناة حضارة وهمية، غشيت أبصار المسلمين طوال عقود من الزمان، وانبهروا بجدليّاتها البوهيمية وأفكارها الفلسفية العقيمة والعميقة والميتافيزيقية، فراحوا يؤلّفون الكتب والمجلدات ليعلموا المسلمين والعرب عموما أنهم في كل واد يهيمون، وأن الحضارة الغربية هي المنقذ مما يعتقدون. لكن اليوم وبعد تفشيّ مرض كورونا في العالم أجمع، ظهرت بوادر انشقاق وكُشف الوجه الحقيقي للغرب الذي يبحث عن مصالحه لا الذي أوهم الناس بمبادئه، فاليوم وبعد دخول الفيروس القارتين الأوروبية والأمريكية كشف الغرب عن وجهه القبيح والمشين، وعن فكره العنصري المقيت، وأنانيته المفرطة في الحصول على ما يريد بأي ثمن، متخطيا كل المبادئ الإنسانية والأخلاقية، متعدّيا على كل الأعراف والقيم الدولية، اختفت قيم التعاون والتكاتف والاتحاد، كما حدث في أوروبا.
ظهرت كل مظاهر الجشع والطمع والاختلاس كما حدث في أمريكا، فظهرت انقسامات واتهامات بين دول الاتحاد، فهذه تتهم الأخرى بعدم التعاون، وأخرى متهمة بقتل شعبها لتخفيف التكاليف والمصاريف، وأخرى تبحث عن شعبيتها فتخفي جرائمها، وهكذا تمارس هذه البلدان كل مظاهر الاحتيال البشعة على الشعوب المقهورة المظلومة وتخفي ما تراه أبشع، فما حدث بين الدول اليوم في أزمة كورونا يضع الغرب تحت المحك، بعد أن مارس القرصنة في حق المرضى، وكل دولة تحاول الاستيلاء على الأخرى وتنهب ما عند الدولة الأخرى لتظهر أمام شعبها أنها تقوم بالواجب واللازم.
كورونا، أزمة صحية عالمية، تضرّرت منها جميع دول العالم، بينت مدى عنصرية الغرب ذي البشرة البيضاء تجاه الأفارقة ذوي البشرة السوداء، حتى نادى مثقفوه بإجراء تجارب طبية على الأفارقة لبيان مدى نجاعة الدواء المفترض لمعالجة مرضى كورونا، مما سبب غضبا واسعا في أوساط الدول الإفريقية التي رأت ذلك نوعا من العبودية والعنصرية في زمن الحضارات والديمقراطية، وأوجدت نوعا من الاستياء الكبير في العالم تجاه ما يجري، بل وكشفت زيف ما ينادي به الغرب في العلن، من التقدم والحضارة والحرية والمساواة، وإذا به يمارس العبودية والرق والعنصرية في أقسى معانيها، هو الغرب الذي يمارس أبشع الجرائم في حق الأفارقة والعرب والمسلمين، حتى لا تقوم لهم قائمة، بل وأظهرت وثائق جديدة مدى جشع الولايات المتحدة الأمريكية وقدرة مسؤوليها على التحكم في دواليب العالم من خلال الضغط المتكرر والمتواصل على المنظمات الدولية التي تموّلها بقوة للتأثير في قراراتها لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، بدءا من مجلس الأمن مرورا بالأمم المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية، إلى المنظمات الأخرى المنتشرة في العالم، فاللوبي الأمريكي أو بالأحرى الغربي له اليد الطولى في القرارات الدولية العامة.
ورغم انهيار الكتلة الغربية في التعامل بحضارة وهمية، تظهر في العالم نقاط ضوء في الأفق، تذكّر العالم بالتعاون الحقيقي في مثل هذه الأزمات بعيدا عن المصالح الذاتية، فلقد أظهر العمانيون مثلا تضامنا كبيرا في فرنسا المريضة التي تعاني انتشارا كبيرا لمرض كورونا، ولس غريبا على العمانيين أن يفعلوا ذلك، فهذا طبعُهم الذي طُبعوا ونشأوا عليه، حيث رفض الأطباء العمانيون المتدرّبون في فرنسا العظمى الرجوع إلى بلدهم وقت الأزمة وآثروا المساعدة بما أوتوا من قوة، وعرّضوا أنفسهم للخطر، من أجل الإنسانية والتعاون الذي دعا إليه الإسلام الدين الحنيف ورسموا أروع الأمثلة في التعاون والتكاتف، وبقوا هناك يمثلون الدولة العمانية الأبيّة، مما جعل الفرنسيين يعترفون بقوة العماني في مثل هذه الأزمات، ويشكرون العمانيين لتعاونهم ووقوفهم معهم ووقفتهم الصامدة تلك.
ومن هنا ندرك أن الحضارة الراسخة لا تضمحلّ، وأن الحضارة الوهمية المقنّعة سرعان ما تتبخّر، ويظهر وجهها الحقيقي، وبانعدام الأخلاق تسقط وتنهار الحضارات، وعند الأزمات تتبين الخروقات، ويمكن أن تظهر تحالفات، وتتشكل تكتلات، ويتغير العالم إلى مجموعات، من شأنها أن تقود الحضارات بأفكار ومعتقدات، تتجدد وفق جميع الأوقات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.