أقرأ هذه الأيام رواية رائعة للأديبة الروسية سفيتلانا ألكسيفيتش بعنوان "فتيان الزنك" والتي حازت على جائزة نوبل للآداب عام 2015 تروي فيها أهوال الحرب الروسية في أفغانستان خلال عقد كامل امتد بين عامي 1979-1989، تألق أدبي لا يضاهيه على الطرف المعاكس إلاّ حجم الانحطاط والإجرام الروسي في أفغانستان بحق الشعب الأفغاني كما هو بحق جنوده الذين تبين أنهم جُندوا على عجل للقتال في أفغانستان دون أن يعلموا إلى أين ذاهبون..
الروائية أسمت روايتها بـ " فتيان الزنك" نسبة إلى التوابيت من مادة الزنك التي كان يرسل فيها الاحتلال السوفياتي جثث قتلاه من أفغانستان ليدفنوا في مقبرة خاصة بهم. تنقل عن أحدهم الذين فضلوا جميعاً حجب هوياتهم كيف أنهم ذهبوا إلى هناك بدعاية مساعدة الشعب الأفغاني وقتال القوات الأميركية الغازية كما روجت الدعاية الروسية حينها فوجدوا أن الشعب الأفغاني هو من يقاتلهم، وتنقل عن جندي آخر كيف أن الشعب الأفغاني في شوارع المدن كان يطاردهم ويطالب منهم الرحيل، بينما كانت حياتهم في الجبهات ومناطق القتال في غاية الصعوبة عسكرياً ومعيشياً، فبالإضافة إلى قتال أشباح كانت هناك قلة الطعام، وقلة الذخيرة بحيث لم يتعدّ منح الجندي الواحد منهم إلاّ مخزنين فقط خلال توجهه للمعركة..
تقتبس الروائية تجربة ضابط آخر لا يزال متأثراً بمشهد زميله العائد من أفغانستان، لكنه حال وصوله إلى موسكو أطلق النار على نفسه منتحراً بسبب هول ما رأى أولاً، وإحباط ما لقي بعد عودته إلى البلد ثانياً |
كان طعامهم هو العصيدة السوداء، وتفاحهم هو البصل كما وصف أحدهم أكله، أما عن الدخان فكانوا يستخدمون أوراق الشجر من أجل لف الدخان أو التشرس الأفغاني والذي هو طلع القنّب.. الحياة في أفغانستان هي ألاّ تفكر في شيء كما تنقل عن أحد الجنود الذي أمضى هناك سنوات، لقد كان الأطفال الأفغان يأتون إلى أماكن وجودنا ناثرين الحشيش والهيرويين ثم يختفون بغمضة عين، أما نحن فكنا نلتقط الحشيش ونستمتع به محاولين تناسي ما يدور حولنا، كان الأطفال في البداية يبيعوننا الحشيش ثم بدأوا يعطوننا إياه مجاناً ليقولوا لنا دخّن يا روسي وسط قهقهاتهم، ونحن كنا نفعل ذلك.
لكن كل ما كنا نقوم به من أعمال عسكرية كان بأوامر من القيادة العسكرية، فالجندي إنما رُبي ودُرب على الطاعة، وإلاّ فالمحاكمة الميدانية مصيره، وهنا يختصر أحدهم مهمته فيقول إنما كنا نقتل من أجل أن نبقى على قيد الحياة ونعود للبلد، من ينبغي محاكمته ومحاسبته هم الضباط وليس الجنود المنفذين الذين كان يطلب منهم قتل الأبرياء من أطفال ونساء، أما الضباط فوظيفتهم إصدار الأوامر لا القتل، وهو ما يجعل الناس يكرهوننا نحن الذين في الواجهة، كان تعاليم الماركسية التي يلقنوننا إياها بأن الجندي ليس سوى طلقة، فوظيفته أن يكون مجرد طلقة، يعني وسيلة للقتل لا للتفكير، أما حولك فكل شيء معاد لك، حتى كنت تحس أن الطبيعة معادية لك.
وحين يتم أسر مقاتل أفغاني كانوا يقيدونه ثم يضربونه كخرقة، كنت أمنعهم من ضربه يقول جندي عائد ثم يضيف كنت أحتقر كل من يفعل ذلك، لكن الأسوأ أن أحدهم كان يمسك بندقية ليطلق النار على نسر طائر بريء لا علاقة له بكل ما يجري لكن هكذا يصبح الجندي في المعركة قاتل مأجور هكذا يختتم آمر سرية المشاة العائدين روايته لما شاهده، ويتابع ملحاً على الروائية ألا تذكر اسمه لا أريد أن أكون من المحاربين القدامى في أفغانستان، فلا أريد استعادة الذكريات، لقد كنا في حرب لسنا بحاجة إليها..
أما عالم الفتيات المجندات فتختصره إحداهن ممن عملت كطابعة في إحدى وحدات الجيش بقصة لطالما تكررت معها ومع غيرها حين رفضت أمراً بالنوم مع الضابط الذي كان مسؤولها فهددها بإرسالها إلى قندهار حيث الموت المحقق هناك كما تقول واصفة الوضع فيها ذباب وأشباح وكابوس، وتستذكر فتاة أخرى صديقتها وهي تطلب مدد الله خلال هجوم تعرضن له في الجبال، كانت تنظر إلى السماء وهي ترسم إشارة الصليب، وهو ما لم نقترب منه هنا بروسيا الشيوعية، ثم تختتم شهادتها بقولها لم أعد أحب الجبال ولا النظر إليها فهي تذكرني دائماً بإطلاق النار علينا ومهاجمتنا في أفغانستان.. كان أكثر ما عاناه جنود الهندسة الذين أطلق عليهم تسمية الانتحاريين هكذا يقول الملازم في سلاح الهندسة الذي أمضى سنوات كمهندس عسكري، ويضيف إن أول ما يتقدم من الجيش في أي هجوم هو سلاح الهندسة، ولذا كان غالبيتهم بين قتيل أو مقطوع الأطراف، لقد دفعوا أثماناً باهظة من حياتهم..
وحين العودة إلى موسكو تنقل الروائية قصصاً عن الفساد على الحدود وعلى الجمارك التي تعكس قصة فساد يدفعها جنود رواتبهم هزيلة، لا تكفيهم شيئاً، لكن الفساد غير المرئي كان بنقل المخدرات ومعاطف الفرو في توابيت الزنك على أنها لجثث قتلى الحرب، ثم تتابع الروائية نقلاً عن أحد العائدين وهو يخاطب أمه لا تحزني كم قرية مهدمة رأيت، لكنني أقول لك لم أشاهد روضة أطفال شيدت أو شجرة زرعت كما كتبت عنها صحفنا، بينما يروي آخر قائلاً سأسعى بكل قوة من منع أولادي من الخدمة في جيشنا.) وينقل هذا الشاهد عن صديقة الروسي المعاق حين يلتقي في النادي الأفغاني مع أميركيين معاقين مثله بسبب الحرب الفيتامية، يقول الروسي للأميركيين لقد أصبت بلغم أميركي في أفغانستان، فيرد عليه الأميركيون ونحن أصبنا بشظية قذيفة روسية في حرب فيتنام، كنا إخوة في السلاح هكذا يقول ولكن لا أدري من الأدق تعبيراً اخوة السلاح أم اخوة الاحتلال.
تقتبس الروائية تجربة ضابط آخر لا يزال متأثراً بمشهد زميله العائد من أفغانستان، لكنه حال وصوله إلى موسكو أطلق النار على نفسه منتحراً بسبب هول ما رأى أولاً، وإحباط ما لقي بعد عودته إلى البلد ثانياً، بينما آخرون من الجنود الذين استمعوا لروايات العائدين فقام أحدهم بشنق نفسه في مرحاض كي لا يرسل إلى هناك، وآخران قاما بقطع أوردتهما فنزفا حتى الموت، فهم لا يريدون خوض تجربة كهذه.. لكن الأغرب هو قول سيدة سوفياتية أن القوات السوفياتية كانت ترسل حتى الوحيد لابنه للقتال في أفغانستان، بينما لم يكن يرسل أيام القيصر الروسي، وتضيف قائلة وهي التي استقبلته جثة هامدة إنها حرب الأمهات في أفغانستان، تضيف زوجة أحد القتلى لقد انتهت بالنسبة للقتلى أما بالنسبة لنا ولأولادنا فقد بدأت اليوم إذ نعيشها ساعة بساعة.. معاناة وعذاب..
حين يعرض على إحداهن وضع لوحة شرف لمن شارك في الحرب بأفغانستان بإحدى المدارس ترد عليهم بالقول لقد كانوا فشلة في الدراسة ومتخلفين عنها، أما في الحرب فقد انهزموا، فأي مأثرة بطولية اجترحوا حتى يلقوا هذا الشرف؟! تقول الروائية إن الإنسان يتغير بعد الحرب وليس في الحرب، لقد كان برجينف والجنرالات العسكريون بحاجة لهذه الحرب كما تقول إحدى المجندات العائدات، لكنها حاجة من كان قبلهم أيام الحرب الفنلندية، فهل تغيرت روسيا بعد الحربين؟ لا لم تتغير والدليل ما جرى في سوريا، فعقارب الساعة الروسية تعود من جديد، وها هو الحليب الروسي يعود إلى ضرعه من جديد، وها هو السجق الروسي يصبح بقراً. من جديد.. لقد عادوا من جديد محتلين في سوريا.. الفارق الزمني فقط أربعة عقود.. بينما خط العرض هو نفسه في كل من أفغانستان وسوريا..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.