شعار قسم مدونات

نجيب محفوظ.. المحلية هي أقرب طريق إلى العالمية!

blogs نجيب محفوظ

من المؤكد أن نجيب محفوظ (1911-2006) شخصية أدبية نادرة ومبدع عظيم استطاع بحصوله على جائزة نوبل للآداب سنة 1988، أن يُنير مصباح الأدب العربي في سماء العالم وجعله يُحظى ببريق مُشّع. غزير الإنتاج الروائي، ترك إرثا أدبيا ضخمًا تحول إلى أفلام سينمائية في مصر وفي عدد من دول العالم. وفي هذا المقال لن أتحدثَ عن محطات حياته البارزة أو عن المنجزات الروائية التي خلفها، لأنها تتحدث عن نفسها وبكلّ لغات العالم وكانت ولا زالت حديثًا له قيمته في المجلات والصحف العربية والعالمية، وموضوعات لها أهميتها في الدراسات النقدية والأكاديمية بمختلف الجامعات. لكن سأتطرق إلى بعض الجوانب الخفية من شخصيته التي ظلت غائبة ربما، على غالبية قرائه وبعض المهتمين بأدبه.

حياته ظلت خفية عن أعين القرّاء لأن هذا الأديب الفنان كان يرفض باستمرار كتابة سيرته الذاتية، رغم أنه في مراهقته قرأ "أيام" طه حسين وحاول تقليده في دفتر عنونه بِـ "الأعوام"، لكن في شيخوخته رفض كتابة حياته رغم إلحاح أصدقائه ومحبيه، هذا التمنع دفع دار نشر أن تقترح على الناقد المصري الراحل "رجاء النقاش" (1934-2008) محاولة إقناعه بحكاية حياته في حوارات بدل كتابتها، وذلك ما تحقق بالفعل، حيث أجرى معه جلسات طويلة وصريحة كلفتهما عاما تقريبا، روى خلالها نجيب محفوظ حياته للنقّاش، وجمعها هذا الأخير كما هي في كتابه الموسوم بِـ "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، كتاب يحمل على امتداد ثلاثمائة وثلاث وثمانين صفحة مفاجآت وطرائف غابت وقتذاك على قرائه، ويتناول بالتفصيل كل ما يتصل بحياته وعالمه الإنساني والأدبي. وحقيقة الأمر كان لهذا الناقد الذي أعطى الكثير للحياة الأدبية والثقافية عموما، دور كبير في التعريف بنجيب محفوظ الإنسان، الأديب والمفكر، وبالمواقف التي ظل مؤمنا بها حتى لحظة مماته، سواء من خلاله كتابه هذا أو حتى من خلال كتابه الآخر "في حب نجيب محفوظ".

الكتابة عند صاحب "الحرافيش" لم تكن متصلة بمكان أو مرهونة بوقت محدد، فتارة كان يسجل خواطره في المقهى، وتارة يكتب على مكتبه، وتارة أخرى يمسك القلم بيده لساعة دون أن يكتب كلمة واحدة

هذا الأديب العربي والعالمي وُلد بالقاهرة، عاش فيها هانئًا وكتب عنها أدبا واقعيا صادقًا، أمضى صباه ملازما لوالدته التي لا تقرأ ولا تكتب، منشغلا عن غياب والده الموظف الحكومي البسيط بدنيا الطيور، حيث كان يمضي أمتع أويقاته على السطح مع الطيور والكتاكيت، أما الأماسي فكان يمضيها في لعب كرة القدم مع أبناء الجيران، هذه المُستديرة الساحرة التي خلبت عقله، أصبح يلعبها حيثما حلّ؛ في أزقة الحارة مع أترابه وفي فناء البيت وحيدًا، حتى أتقنها وانضم إلى فريق المدرسة فأصبح هدّاف الفريق وأكبر لاعبيه إحرازا للأهداف، ثم مدافعًا شرسا يتصدى بحرفية كبيرة لكل تمريرات الخصم. ظل على هذا الحال حتى المرحلة الجامعية حينها سرقه الأدب واعتقله في سراديبه المليئة بالجمال وبالأسرار. ولأن إدامة الأدب كانت أقوى، رفض الانضمام إلى فريق الجامعة، رغم إصرار كثيرين ممن شاهدوا مبارياته وتنبأوا له بالشّهرة في عالم كرة القدم، لكنه فارق كرة القدم وأصبح عبقريًا ومشهورًا بجرّة القلم.

سريعًا تمر السنون وتنتهي لحظات الصِّبا السعيدة، وتأتي أوقات التمدرس ويصبح الوقت الذي لا يعيروه الصبيان أي اهتمام، ذا سطوة، يسقط اهتمامات ويرسّخ محلها اهتمامات أخرى. ومرت الأيام والتحق صاحبنا "بالكتّاب" مُرغمًا، وحينما دخل المدرسة الإبتدائية تفتق ذكاؤه وتفتحت شهيته للتعلّم، ظلَّ مُتفوقا في التحصيل الدراسي، ساطعًا في لعبة كرة القدم، حتى وصل المرحلة الجامعية وتخصص في الفلسفة بكلية الآداب، هذا الأمر خيب ظن والده الذي كان يريد له أن يلتحق بكلية الطب أو الحقوق، كان يطمح أن يراه طبيبا أو قاضيا، لكن كان لرغبته شأن آخر، تخلى عن كرة القدم وعن المواد العلمية التي أظهر تفوقا ملحوظا فيها، وتوجه إلى كلية الآداب وسط ذهول عائلته وحتى أستاذته.

وفي الجامعة، أحبَّ الفلسفة وعشقَ الرواية، هذه المعشوقة التي أرسى جذورها عميقا في أرض القاهرة الخصبة، حتى غدت شجرة سامقة بأغصان مُمتدّة. شجرة اسمها الرواية الواقعية التي تسببت له في أذى نفسيا كبيرًا، فمباشرة بعد تتويجه بجائزة نوبل، تعرض لحملات المُنتقدين واتهامات الحاقدين، وكان الجميع يدرك أن هذه الاتهامات بعيدة عن الحقيقة لكن أعداء الإبداع كانوا معصوبي الأعين، منعدمي الذائقة الأدبية، لا يفهمون إلا لغة التكفير ولا يحملون إلا هراوة التهديد، حيث أمطروه بوابل من الاتهامات بالردة والكفر، وطعنوه بمدية حادة انغرست في رقبته تاركة من ورائها نوافير دم نازف، مما جعلَ جهاز الأمن يعرض عليه توفير حماية شخصية له لكنه رفضَ، وفضل أن يعيش بقية حياته مع الناس، عاش قريبا من الناس وظل اسمه خالدًا في قلوب كلّ الناس. سيعزّ عليّ كثيرًا أن أرغم على الابتعاد عن الناس وأن تكون بيني وبينهم حواجز أمنية. إن حياتي كانت دائما وسط الناس..

الكتابة عند صاحب "الحرافيش" لم تكن متصلة بمكان أو مرهونة بوقت محدد، فتارة كان يسجل خواطره في المقهى، وتارة يكتب على مكتبه، وتارة أخرى يمسك القلم بيده لساعة دون أن يكتب كلمة واحدة. فعلى خلاف عشقه لكرة القدم التي مارسها بشغف وبانتظامٍ لعشر سنوات متصلة، كانت مواعيده مع الكتابة غير مضبوطة وتخضع لمزاجه الخاص ولأسلوب حياته المختلف. كان يضع مشروعه الأدبي على رأس قائمة كلّ اهتماماته لذلك كان يخشى الاقتران بزوجةٍ لا تحترم مساحاته ولا تعطي لاهتماماته أية قيمة، لكنها كانت مجرد تخوفات أديب يحبُّ نصوصه أكثر من أيّ شيء.

تأخرَ عن الإلتحاق بركب المتزوجين حتى بلغ الثالثة والأربعين، قابل "عطية الله" وتزوجها سرا وظل هذا السر بعيدا لمدة طويلة عن والدته التي كانت ترفض هذه الزيجة، وعكس تخوّفه من ضياع مشروعه الأدبي الذي رافقه لسنين، كانت هذه الزوجة موائِمة جدّا لاهتماماته، وفرت له كل الظروف الملائمة للكتابة وتحملت مزاجية الأديب، كما تحملت غضبه يوم أيقظته من نومه لتزف له خبر تتويجه بجائزة نوبل، وازداد غضبه واشتدَّ غيظُه حينما وجد بيته يكتظ بطوفان بشريّ يمتد إلى خارج البيت، حيث حضر صحافيون ورجال إعلام ومئات الأصدقاء والقرّاء، أما رنين هاتفه فظل يصدح باتصالات المهنّئين، كان أبرزها اتصال حسني مبارك وسفير السويد وشخصيات أخرى. زحام شديد وفوضى جعلته يرفض إجراء أي حوار تلفزيوني واكتفى بحوار واحد أجراه مع صحافيين أجانب كان لهم التزام بالسفر في اليوم الموالي.

كنتُ في الثالثة عشرة، أو أكثر قليلا، عندما قرأت أول رواية لهذا الأديب الذي كتب هموم جيله ولامس ذائقة كلّ الأجيال، وكنتُ محظوظا لأنني اكتشفتُ مبكرا رواياته وتأثرت بها، لذلك ظلت حياته محط اهتمام وموضع بحث، حتى عثرت مؤخرا بالصدفة على هذين الكتابين الرائعين، وأمضيتُ بين دفتيهما وقتا ماتعا، وتعرفت من خلالهما أكثر على نجيب محفوظ الإنسان وسبب تعلقه بالقاهرة وكتابته عنها. عاش وهو يكتب عن كل ما حوله من بشر وأشياء؛ الوظيفة والمقاهي المُكتظة والحارات الفسيحة حيث كان يلتقطُ نماذج متنوعة من شخوص وأمكنة نصوصه، يلتقطها بمهارة لاعب كروي موهوب لكن مربع العمليات هنا كان هو رقعة الورق. في القاهرة عاش وعن حاراتها كتب، منها جاء وإلى العالمية وصل، ويا ليت كُتّابنا الشباب يدركون أن المحلية هي أقرب طريق إلى العالمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.