شعار قسم مدونات

عبقرية النبي محمّد صلى الله علية وسلم كما رواها العقاد

blogs عبقرية محمد

رافق ظهور النبي محمّد حالة من الفوضى يعيشها العالم، عالم فقد البوصلة في تعاملاته وقوانينه مما زعزع نظامه، وانتقل الحال من دولة تَحكم بشريعة سماوية وتَنشر الطمأنينة والشعور بالأمان لوجود العدل واختيار الأصلح إلى حالة من فوضى المادية والهوى، وسط هذا العالم وُلد المصطفى في جزيرة العرب التي لا تحرسها القيم ولا تعنيها معاني العدل والمساواة، ومن يحكم هو النسب والمال وبهما يقاس الشرف وتعطى بهما الرياسة، متجاوزين كل الأسس لِتَقلُد الحُكم، من هنا فإن حاجة العالم إلى النظام والعدل أنشأت الحاجة لرسالة عالمية ومحمّد كان أجدر من يحملُ هذه الرسالة.

محمّد.. شخصه وعائلته

لقد كان النبي ودودًا في طبعه عطوفًا في تصرفاته، تجلت فيه صفات الإستقامة ودماثة الخلق، وكان حريصًا على نظافة البدن وعلى أن يراهُ الناس في أفضل صورة، ارتسمتْ في محياهُ ابتسامة جذبت كل من رآهُ وسحرت أفئدتهم حتى هَوَتْ وأصبحوا متيمين بحب النبي العظيم، هذه الصفات قرَّبت منه نخبة الرجال الذين قامت الدولة على أكتافهم، فقد اجتمع حوله الصّديق والفاروق، وجذبت دعوته خالد وعمر بن العاص، وغير هؤلاء من العظماء مَن انطووا تحت لواء محمّد.

مثّل النبي محمّد -صلى الله عليه وسلم- حالة غيرتْ مجرى التاريخ، فمثلت دعوته ثورة على واقع العبودية والظلم وأظهرت رسالته قيم الحرية والعدل، امتدت رسالة محمّد ما بعد وفاته لتصل إلى دول عديدة

أما محمّد الزوج فإن عظمته تتجلى عندما نرى المكانة التي وصلت إليها المرأة بفضل محمّد ودينه، فمن استعباد المرأة عند الرومان، ومن صورة استقرت عند عرب الجاهلية بأن المرأة خلقت للمتعة، واقترنت البنت بالعار، جاء محمّد ليكرم المرأة؛ فأخرجها من التوريث والعبودية إلى حرية الإختيار، لها ما يضمن حقوقها وعليها من الواجبات ما يحافظ على إنسانيتها وكرامتها، فيما كانت سمته مع زوجاته الحب والمودة؛ فكان دائم الحديث بكلمات رقيقة لزوجاته، يراعي ظروف المرأة أوقات الغضب، ولم يروي التاريخ أنه ضرب زوجة أو جعلها تحزن، وفي عدله يوم جاءه المرض استأذن زوجاته أن يمضي أيامه في بيت عائشة، مراعاة لحقهنّ ومشاعرهنّ.

ومحمّد الأب أصلح الآباء، تمثل عطفه بداية من انتقاء أسماء أبناءه، وتمثل صبره عندما فُجع بابنيه وتمثلت انسانيته بأن لم تمنعه هيبة النبوة من ذرف العبرات على قبر إبراهيم، وفي معاملة ابنته فاطمة الزهراء منهج جمع بين صلاح الأبوة وتكريم المرأة؛ كان يقوم إذا أقبلت ويُقَبِلُ كفها ورأسها، وبرّ بها عندما زوَّجها لأشجع شبان مكة علي بن أبي طالب، ومثّل قيم الأبوة في يوم وفاته عندما بشرها بلقائها القريب، فسرَّها في حياته وسرَّها في مماته.

محمّد.. رجل دولة

لو نظرنا إلى تجربة النبي الأعظم باعتباره مؤسس دولة حديثة، سنجد أنه برع في فنون الحرب التي مارسها أشهرُ القادة المعاصرين مثل نابليون بونابرت؛ فقد وجَّه النبي محمّد قواته لضرب القوة العسكرية للعدو بعيدًا عن الذهاب نحو المدن والقرى السكنية، وممّا برع فيه النبي شحذُ هِمَمِ جنوده أو ما يسمى في العصر الحديث التوجيه المعنوي، وقد تبرز قيمة التوجيه المعنوي في حالة الحروب الواقعة بين جيش وآخر أقل منه عددًا، وهو ما كانت عليه جيوش الدولة الإسلامية معظم الوقت، غير أن الغلبة والنصر لازمهم، ولم تغب عن أيضا النبي قطع الإمدادات المالية والتجارية عن الدولة المعادية، أي أنه مارس حربًا اقتصادية جعلت وفود قريش تأتيه لتقدم تنازلات وتعرض الصلح، محققًا نصرًا سياسيًا لحقه النصر العسكري.

وكذلك ظهر النبي عَلَمًا في ميادين السياسة والتخطيط؛ فرأيناه يحسن استغلال أوقات السلم كما أجاد أوقات الحرب، وهنا لا يغيب صلح الحديبية، الذي ظنّت قريش أنها حَسرتْ به نفوذ النبي محمّد وحاصرت دعوته، ولكن النتائج أظهرتْ دهاء النبي وحِنكته السياسية؛ لأنهُ طوال عشرِ سنوات توقفت فيها الحرب دخلت قبائل كثيرة تحت لواء الإسلام، كما أن النبي استثمر هذه الفترة لبناء سوق وإرساء مؤسسات الدولة، كما وتسنَّتْ لهُ الفرصة لمخاطبة قادة العالم وإرسال الوفود لهم، وانتهت قصة صلح الحديبية بالفتح العظيم فتح مكة، فقد استثمر النبي ما جمعه بين يديه من قوة سياسية وعسكرية واقتصادية للوصول لمبتغاه، بل إن حكمة القائد جعلت العدو ينقلب صديقا تحت لوائه؛ فلم يقتل ولم ينهب ولم يعاقب أحدا، بل أنه صفح وعفى فثبت أوتاد خيمته التي أظلت مكة والمدينة.

محمّد في التاريخ

مثّل النبي محمّد -صلى الله عليه وسلم- حالة غيرتْ مجرى التاريخ، فمثلت دعوته ثورة على واقع العبودية والظلم وأظهرت رسالته قيم الحرية والعدل، امتدت رسالة محمّد ما بعد وفاته لتصل إلى دول عديدة، فاتحة قلوب الناس الذين قبلوها وتشربوا معانيها المنسجمة مع الفطرة الإنسانية، وهنا تتمثل عظمة القائد الذي حافظ على كيان دولته وشعلة الإيمان في قلب أصحابه بعد وفاته، وبهذا تجلَّتْ براعته ليرسم خطًى يسير على أثرها كل من وصلت له دعوة الإسلام.

لو أردنا أن نَزِنَ محمّد والتاريخ لغلبتْ كِفة محمّد؛ فلم يسبق أن ظهر رجل أثَّر في التاريخ مثلما فعل محمّد، لو نظرنا إلى الحقب الزمنية فسنعلم أن الملوك كانت لهم السطوة والسيطرة، ومحمّد جاء هادمًا لسطوة الظالم وسيطرة الفرعون، جاء فأقام دولة الرأي والحقوق، وجعل أساس التعامل في العلاقات قائمًا على الأخلاق، والتعامل في أمور الدولة والتجارة قائم على الكفاءة، وبين الأخلاق والكفاءة ظهر العظماء اللذين ممن ساروا على منهجه المستقيم ورسموا ملامح التاريخ كأبرز ملامح صدق دعوته وصلاح منهجه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.